ولدت في بيت يقع على كتف نهر دجلة، في كرادة مريم، ليس بعيدا عن جسر الجمهورية… وكان ذلك في الشهر الصغير من عام 1949 حسبما تتذكر المرحومة امي … النوارس بألوانها ونداءاتها كانت تهيمن على سماء المنزل، ورائحة الغرين والاسماك هي عنوان البيت، في ذاكرة طفل صغير .ذلك البيت؛ كان الأجمل في حياتي، لكن امواج النهر العاتية، اخذته بعيدًا، في واحدة من اقسى نوبات دجلة. ومنذ ذاك، ابتدأت ارتحالات، لم تتوقف الا قليلا، في العقدين الاخيرين.

كل هذا ترك اثارا لا تمحى في معنى المكان الذي شكلني، واعدت تشكيله مرات ومرات من خلال اشكال فنية كثيرة… ومن مخيم "منكوبي الفيضان" بجانب الكرخ، الى خلف السدة الشرقية، حيث يكمل الحريق الهائل الذي شب في مستودعات الوقود في محطة الكيلاني القريبة، والتي احالت المنطقة الى جحيم، فصلا آخر من سيرة المكان..

كان الطين، كما كان قلم الرصاص؛ هو المادة الأقرب الى القلب والأصابع : في البيت وعلى الطريق الى المدرسة. كانت نتيجتها العديد من البورتريهات الطينية لأشخاص متخيلين أو من سكان الحوش الذي يمتلئ بالأقارب. وكنت أنقل هذه التماثيل الى المدرسة المتوسطة البعيدة، لأقدمها الى استاذ مادة الرسم؛ الفنان والمربي الكبير شاكر حسن آل سعيد في متوسطة النظامية للبنين ... حقول الطين الممتدة على الطريق الى المدرسة، كانت أكبر من تلك التي يمكن ان يضمها كراسة الرسم " قطعة الخشب كانت أكبر من قلم الرصاص. كانت هذه الرسوم تتشقق وتتكسر بعد بضعة أيام دافئة، لتجف وتتحول غبارا، ليعيد تجميعها المطر.. هو الدرس الأول والأطول لتذوق تحولات مواد الرسم، ومعناه، والذي سيخلق الأساس لتشكيل ذائقة "التجريد" وحرية التعامل مع الخامات. وقد يتيح السيراميك، الذي أعمل عليه منذ عشرين عاما، الجواب على تداخل العناصر .

التجربة الأكثر ألما وخطورة، والتي تركت بصماتها، عميقا في الروح والوجدان، ولحد الان، هي اختطافي، في العشرين من حزيران 1971، وحيث أكثر من عشرة مسدسات تصوب على رأس كان يحلم بإنجاز لوحة .. أشهر طويلة من العذاب الجسدي والنفسي، في قصر النهاية، بانتظار الموت، أو بسمة مستحيلة للقدر... هناك رأيت العراق بكل جهاته... نهر الدم، الموت والخراب... وأيضا آيات من البسالة النادرة.

ما بعد الدراسة المتوسطة، كانت هنالك محاولات فنية متعثرة، ولكنها بدأت تتسق تدريجيًا، لغاية دراستي في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وكان الحدث الابرز في هذه البدايات هو مشاركتي بأول معرض، أُقيم للموهوبين فنيا من طلبة جامعة بغداد، حيث شاركت بأربع لوحات من قياس1x1 متر، والأكثر اثارة هو اقتناءها من قبل أحد محبي الفن.

في 1973 شاركت أكاديمية الفنون الجميلة في برنامج معرض "السنتين العربي"، وكنت احد الطلبة المشاركين في المعرض الذي كان بإدارة نخبة رائعة من أساتذة الأكاديمية، اختيارًا وأعدادًا... كان المعرض جاهزا تماما للافتتاح، حينما اخبرني احد اعضاء اللجنة، بان اعمال ثلاث او اربعة من المشاركين بالمعرض، قد ازيحت عن الجدران من قبل قوة لم يشأ ان يسميها، ولاسباب كان يجهلها!… وكانت اعمالي من بين تلك المرفوضة (سياسيا!).

زميلنا العزيز الفنان فيصل لعيبي، وصديق له، استطاعا تأجير محل صغير قرب موقع الجندي المجهول ببغداد، واسسا فيه كاليري " الاربعة " والذي قدم الأعمال المرفوضة في أول معرض له، حضي باهتمام فني كبير، وكان أول مواجهة فنية وثقافية حقيقية مع النظام. ان تشكل اعمالنا خطرا، كان دليل اعتراف باهميتها، وكان تلك جائزة هامة!.

كنت لم ازل طالبا، حينما حصلت على عضوية جمعية الفنانين التشكيليين، والمشاركة في معارضها، وايضا اقامتي لأول معرض شخصي، على فضاء " نادي التعارف " ببغداد. كانت سنوات جمر، حلم وعمل .……………

الفنان والطاغية كانا دائما على طرفي نقيض … وحينما جف الهواء ، آواخر السبعينات ، و لم يعد سوى الرماد طعما ، كان البحث عن سماء اخرى هو الخيار الوحيد.

في عام 1979، اشتغلت سوية مع إسماعيل زاير على مشروع معرض مشترك للفن التشكيلي العراقي، وفعلا تمت اقامته في بيت النائب اللبناني اليساري زاهر الخطيب، وكان افتتاحه رائعا، انتقل بعدها ليقام في بيروت ومن بعدها في عدن. 

في اواخر 1983، طورت مشروع معرض شخصي لاعمالي، الى معرض مشترك يستشرف التجربة الانصارية لاربع فنانين: " ابو غصون ساطع هاشم، مهند وسعد علي... اقيم المعرض على فضاءات المركز الثقافي العربي بدمشق وبتنسيق مع رابطة الكتاب والفنانين الديمقراطيين العراقيين، حقق المعرض نجاحًا واهتمامًا جماهيريا باللوحات، وكذلك بمعناه. احسب انه كان المعرض الأول لثلاثة فنانين انصار، والأخير ايضا .

في ربيع 1981، كانت الاحلام، تتقدم الخطوات، الى استعادة كرامة بلد يطوح به قتلة محترفون.. لا احد يولد شجاعًا، انما ذلك مما يمكن ان يكتسبه المرء من الوقائع القاسية لحياة الانصار الذين قدموا تضحياتهم بسخاء ونكران ذات لا مثيل له، فيما يشبه الاسطورة او المستحيل، كثير من العرق والدماء والدموع، كانت تمرينا في الشجاعة النادرة.

ضوء من نوع آخر؛ كان هو المرتجى . 

لا يلام الليل كثيرا، بل ذلك السخام الذي تجمع على بلورة الفانوس، كان يعتم على ذلك البصيص النحيل… كنا نرى بالكاد موطأ الخطوات، الخطوات التي تكسرت احلامها.. ومن ملكوتها الى منفى جديد.

لعل المعرض الشخصي الذي اقيم في "كلي كوماته" 1982، يقول الكثير عن معنى الفن، الفنان والجهد الجمعي المؤازر لاجتراح فعل كهذا. وإذ لا يختلف العمل اليومي للفنان عن سواه من الانصار، الا ان مبادرة تقديم بعض الوقت، والتطوع بانجاز بعض الاعمال الروتينية بدلا من الفنان، من قبل هذا الرفيق او ذاك، لكي يتفرغ لساعة لانجاز بعض رسوماته… طباعة دليل للمعرض، رغم فداحة ثمن الورق والحبر، قطع اغصان لكي تكون اعمدة الخيمة التي ستصبح "كاليري" وتهيئة كل ما يلزم ليوم الافتتاح؛ كلها أسهمت في تحويل حلم صغير الى واقعة، قد تكون هي الاولى في تأريخ الأنصار والبيشمركة .

اسماء مضيئة كثيرة ساهمت في انجاح المشروع؛ ابو هيمن، ابو دجلة واخرين .

اقمت الى الان الكثير من المعارض، لكن طعم ذلك المعرض كان الاقرب الى القلب .

امر آخر، اعتز بانجازه وهو الملصقات الصغيرة التي كنت ارسمها وينجزها طباعة؛ المكتب الصحفي في الفوج الثالث، على آلة الرونيو، والتي كانت تعبأ في علب السجائر وتستخدمها المفارز في عملها الاعلامي، ومنها ما وصل مدنا ومواقع بعيدة … بعد اكثر من ثلاثين عاما من ذلك الحدث، وجدت على جدران مدن اوربية، ذات التقنية ؛ mini poster !. فرحت لمنجزنا كثيرا. !

الاشارة لا تنسى، الى ولادة صحيفة " النصير " ومشاركتي في فريق عملها الصغير؛ تصميما، طباعة وتحريرًا، منذ العدد الاول. تلك كانت تجربة نفتخر بها جميعًا .

الانتقالات المكانية، التي غطت اقطارا بثلاث قارات، القت بظلالها سلبا وايجابا، وبخاصةعلى مجال عملي كفنان، اذ كنت دائما اخسر شبكة العمل والنجاحات المحرزة، وهي فادحة الثمن .الابتداء من الصفر، كان مكلفًا جدا، لكن الضربة التي لا تقتلك؛ تقويك! كما يقال، اذ تمنح الخبرة والحلم اجنحة اضافية لمواجهة اشتراطات المكان الجديد، وقسوة الصفر الجديد.. 

وصلت الى ليبيا في ربيع 1988، لاعمل في كلية الفنون الجميلة بطرابلس مدرسا لمادة الجداريات،. في ذلك الوقت لم يكن في تلك البلاد الجميلة، متحفا للفن او كاليري حكومي او تجاري … فكيف تتحدث مع الناس عن الفن الغائب؟ وكيف تظمن حاجة الناس الى الفن؟ ومن اية نقطة ينبغي عليك البدء؟. حصلت الكلية على عرض من بلدية مدينة طرابلس على انجاز رسوم جدارية، وبالتالي فقد كلفت به بوصفي استاذ المادة لأبدأ مشروعا كنت اختزنه لبغداد، ولكن مالفرق بين طرابلس وبغداد في لحظة القهر والحرية والتحدي؟. طرابلس مدينة تشبه بغداد، و ثمة اواصر عجيبة في المزاج الليبي والعراقي، ما خلق تجربة رسوم جدارية مازلنا؛ اصدقائي من الفنانين والفنانات اليوم ومن طلبتي انذاك، نتذكرها باعتزاز شديد …

في اوربا، وبعد عدة بدايات صفرية، واجهت تحد اكبر، ان تتقدم اعمالي الى وسط بيئة مشبعة بالفن والفنانين، وحيث تجد في اية مدينة عددا من الفنانين يفوق عما في بلد عربي باكمله! ولكن للناس عيون، وللمكان فضيلة الحساسية البصرية العالية... الهاجس هو دخول حياة البلد الفنية، لا الهامش، و كان ذلك ولادة جديدة .

اعمالي قد وجدت طريقها الى العديد من المتاحف والكاليريات واسواق الفن الهامة وفي العديد من البلدان.. وليس تفاخرا ان اقول باني كنت مرشحًا لتمثيل هولندا في بينالة فينيسيا.. كما طبع عن اعمالي كتابين، من خلال متحفين مهمين في هولندا، اضافة الى جائزة افضل عمل فني لسنة 2002، والتي منحتها واحدة من اقدم جمعيات الفن في هولندا Kunstliefde في مدينة اوتريخت بهولندا .

اعمل منفردا وايضا مع مجموعات من الفنانين عراقيين وعربا ومن ثقافات مختلفة: اشتغل مع الفنانين: رسمي الخفاجي وبالدين احمد في معرض " ضفتان " المتجول بين : فلورنسا، اوتريخت، السليمانية و بغداد، و مدن اخرى .صدر عن المعرض كتاب ملون بالحجم الكبير، بذات العنوان، و طبع على نفقة الفنانين الثلاثة.

بموازاة ذلك اشتغل مع فنانين عربيين: سلمان المالك من قطر ومحمد الجالوس من الاردن، وقد عرض الى الان في عمان والدوحة، وينتظر وصوله الى أوتريخت، ومنها الى مدن اخرى، وقد صدر عن المعرض كتاب ملون " رغم المسافة: وصل "، ومن المتوقع عرضه في مدينتين في شمال وجنوب إفريقيا …هذه الفعاليات، تجري بظل حوار يضع الانشغال الابداعي نقطة مركزية له …وهنالك مشاريع وافكار اخرى قد لا يتسع لها المكان هنا .

الان: الأنصار والفن والثقافة ؟

سؤال صعب، واجابته لدى اللجان التنفيذية المتكررة .لم يحظ الفن التشكيلي بعناية مؤسستنا العتيدة .ما يزال التطلع؛ الى عمل جدي يخفف على الاقل من الضرر الفادح الذي الحق بالفن التشكيلي وباسم هذه المؤسسة، من خلال قيام احدهم بتاجير بعض الاشياء الرديئة وعرضها على انها لوحات لفنانين انصار، ما سبب احباطا واشكالات عمل كثيرة .لدينا كفنانين وانصار، قامات فنية واسماء باهرة، ولكن السؤال الذي يثير الكثير من الشجن؛ لم تأجل الاهتمام بمنجز هؤلاء الفنانات والفنانين، كل هذا الزمن ؟. الم يكن حريا برابطة الانصار تقديم نفسها، من خلالهم، الى ألعالم والجمهور العراقي، وبخاصة الاجيال الجديدة التي لم يتح لها، بعد، التعرف على دروس تجربة وطنية شجاعة، تعينهم في صراعهم ضد الفساد والمافيات السياسية… هنالك امكانيات هائلة على مستوى الطاقة التعبيرية للفن والفنانين الانصار، وأيضًا للرابطة كجسم تنظيمي! ولكن، نحن متأخرون كثيرا..... الفن هو خبز الناس، ضرورة وليس ترفا.

13.7.2022