1987   شتاؤه لا يختلف عن سابقيه في تلك الاصقاع التي توحي بالسبات لكل الاحياء، لان ذلك البرد القارس الجاف وتلك الطبيعة الجبلية القاسية تطغى على روح التحدي احيانا. كانت صديقتي بسمة على وشك الولادة، وهي امرأة قروية تصغرني سنا، كردية من قصبة بامرني، تعيش مع زوجها عبدالله واطفالها الاربعة في (كاني بلاف) القرية الاثورية. كانوا ملاحقين من قبل السلطة العراقية لانهم ينتمون الى عائلة معارضة، العائلة بانفارها السبعة تعيش في غرفة لا تزيد مساحتها على (4×4 م) هي غرفة النوم والمعيشة واستقبال الضيوف وانا معهم في نفس الغرفة، تتوسط الحجرة مدفأة معدنية يوقد فيها الخشب لمجابهة ذلك البرد الذي ترتعد له الاوصال، عند هبوب تلك العواصف الثلجية فلا مفر غير الركون الى المدفأة والتمتع بقليل من دفئها.

تربطني ببسمة اواصر صداقة واحترام متبادل، وكذا الحال مع زوجها واطفالها وكانني واحدة منهم رغم فارق الدين والقومية، وكان ذلك موضع تساؤل بعض اقرانهم في الدين: كيف يسمحون لي وانا فتاة مسيحية ان اشاركهم العيش؟ فالوضع الاجتماعي المتدين يضع قيوده الصارمة خاصة بحق المرأة. كانوا ينظرون الى تلك الامور من منظار التقاليد المتوارثة التي طغت عليها التعاليم الدينية في بعض الاحيان. ورغم ان ذلك لم يغرب عن بال بسمة الا انها كانت تتجاهله كليا، وكأن الامر لا يعنيها. صداقتها عميقة الجذور وثقتها بي لا حدود لها، فانا المستودع الذي تفرغ فيه احاسيسها وخصوصياتها، كما كنت ابادلها الود والشعور بالارتياح لها ولاطفالها. كنت افتقد العيش وسط العائلة فليس هنا سوى الحياة العسكرية والمهمات النضالية. كنت بحاجة، ولو لبعض الوقت، ان اخلع البزة العسكرية وارتدي الثياب النسائية الكردية لاشعر انني فتاة. كنت ارتدي احيانا، ملابس بسمة الكردية والقي السلاح على الرف. ان صادف وغبت عنها لبضعة ايام، كانت لا تنفك هي واطفالها في التساؤل والتحري.

منتصف الليل، ايقظني صوت بسمة وهي تنادي زوجها عبدالله وتحثه على طلب والدته، فهرعت اليها مسرعة اشد من ازرها. ارتدى عبدالله ثيابه على عجل وخرج يسابق الريح، وبعد هنيهة جاءت والدته وهي امرأة مسنة لتباشر عملية الولادة، اما عبدالله فقد بقي في دار والدته يستأنف نومه.

اوقدت النار في المدفأة الخشبية، وسارعت لغلي الماء في صفيحة معدنية فوقها استعدادا لاغتسال الوليد. الاطفال يغطون في النوم، اما العجوز (القابلة) فكانت تصرخ، كنت حانقة على تصرفات تلك العجوز وطريقتها الخشنة لتحقيق الولادة، فالمرأة في مثل تلك الاحوال ينبغي ان تحاط ببالغ العناية والرأفة ولتحقيق ذلك ابتكرت الوسائل العلمية التي تخفف من وطأة الولادة وآلامها، والعناية المركزة بالمرأة قبل تلك العملية وبعدها وكذلك الامر بالنسبة للطفل. أين هذا من تلك العجوز المتوترة التي تصرخ بين الفترة والاخرى على بسمة طالبة منها تطبيق اوامرها والا ستتركها لحالها!، كانت الخيار الوحيد لنا لذلك لم اود انتقادها على ذلك الاسلوب الفظ. هكذا تفرض الحياة القسوة على الانسان. علما انها كانت ام حنونة لبسمة واولادها. كنت اشعر الجميع يحترم هذه المراة الرائعة .

بسمة تصرخ وتبكي: آلام بطني وظهري لا تحتمل"، وعلى صراخها ينتفض الاطفال من نومهم رافعين رؤوسهم سائلين جدتهم لماذا تصرخ والدتهم ويشاركونها البكاء والنحيب ليتلقوا ضربة (بالنعال) من العجوز على رؤوسهم. ضربت ريكو (عمره 7 سنوات) بقسوة على رأسه فانفجر بالبكاء وهرع الى النوم والهلع والخوف قد سيطرا عليه، فهو لا يدرك ماذا يجري. تنهض روندك الصبية الجميلة (عمرها 9 سنوات) لتتطلع من وراء اللحاف الى والدتها. العجوز: نامي مقصوفة العمر والا ساكرر الضرب على رأسك، لا يجوز النهوض في هذا الوضع" فتبكي الطفلة وتتلوى من الم الضربة.

بسمة رغم معاناتها لا تنسى ان تُهدئ من لوعة الاطفال مطمئنة اياهم:" انا بخير يا اعزائي ناموا لا تقلقوا علي"، فينام الاطفال على مضض. تتعاقب طلقات الولادة على بسمة وهي مستمرة في كتم انفاسها، استمرت على هذا النحو حتى الصباح ونحن بانتظار الولادة، وحينما استيقظ الاطفال اودعناهم عند الجيران ليقدموا لهم وجبة فطور ووقاية لهم من البرد فيما لو بقوا خارج الدار. كانت علامات القلق والحيرة بادية عليهم وهم وراء الباب يشعرون بان والدتهم ستلد، وانها تتألم كثيرا ولكنهم بقوا صامتين يترقبون الطفل الصغير.

انا وجدتهم بانتظار المخاض وحتى العاشرة صباحا والعجوز بيدها منشفة ولدت بسمة. اخذت الطفل فورا ووضعته في طشت وبدأت اغسله وعندما بدأ بالصراخ هو ايضا، اطمئنت بسمة وايقنت انه حي.

بعد ان غسلت الطفل ولففته بالاقمشة، اتقاءً للبرد، بادرت مع العجوز لمساعدة بسمة ثانية. كانت العجوز منهمكة في اعداد المكان بعد ان فصلت الحبل السري عن المشيمة بمقص صدء قديم وغير معقم. ماذا تفعل هذه المراة العجوز؟ كيف تعرض تلك الفتاة الى مخاطر التلوث والتسمم، بسمة عديمة المقاومة خائرة القوى؟ اوصت ان توضع بسمة في فراش غير نظيف فهي تنزف والفراش النظيف سيتسخ من الدماء النازفة من بسمة.

هرع الاطفال في الدخول الى الغرفة ليجدوا والدتهم مطروحة على الفراش والى جانبها الطفل الصغير، جميل المحيا، هادىء الطبع، وكانت بسمة بالرغم من آلامها وقساوة اللحظات التي مرت عليها، كانت فرحتها لا توصف فقد انجبت ذكرا. ولو كان العكس لجلبت على نفسها البلاء وحنق الاهل والاقارب، كانها هي المسؤولة عن صنف المولود ذكرا كان ام انثى. ذلك ان المرأة التي تنجب الاناث في المجتمع الشرقي تبقى منبوذة محتقرة، فالذكر هو الذي يحمل اسم العشيرة واما الفتاة فتعيش مع عائلتها مؤقتا لتتزوج وتذهب الى عائلة اخرى، وكان الشائع ان رحم المرأة هو المسؤول عن طبيعة المولود! والعراقيين حالهم حال المجتمعات الشرقية، يحبون الذكور ولا يحبون الاناث، فكثرة الذكور في العائلة والعشيرة يمنحها القوة والسطوة والاعتبار.

بعد دقائق حضر الزوج عبدالله مسرورا ليهنأ زوجته بمولودها، الذكر فهذا هو الصبي الثالث في العائلة. بسمة تشكو الى زوجها كثرة النزف، تتأكد العجوز من ذلك، وانا ايضا شعرت بانها تنزف. العجوز تلجأ الى تلاوة التعاويذ والصلوات والشعوذة لايقاف النزيف، خرجت من الغرفة وناديت عبد الله وطلبت منه ان يهرع الى الطبيب، قلت له:" اركض الى الدكتور صلاح رغم انه يبعد عنا مسيرة ساعتين والا فقدت زوجتك، فالنزف يحتاج الى زرقة من دواء لوقف النزف". لم تشجعه والدته على ذلك، فهي مقتنعة بان الدعاء والصلاة والاكثار منها سيؤدي الى وقف النزيف وتحسن حالة بسمة، خلال ذلك كانت تقدم لها بعض الاعشاب المعروفة في المنطقة. عبدالله حمل بندقيته على كتفه وتمنطق بحزامه العسكري خاطفا خطاه الى د. صلاح غير آبه بالمطر المنهمر بغزارة. انه مطر الشتاء المتواصل.

بعد اربع ساعات حسبناها اربعة دهور، وصل عبدالله بصحبة د. صلاح، تحدثت بسمة الى الطبيب بحضور زوجها فزرقها بمضادات النزيف لكن في المجتمع الكردي لا يسمح لرجل ان يقوم بتلك العملية. تناولت انا الحقنة وزرقتها. بعد حوالي عشرة دقائق شعرت بالتحسن وبدأ النزيف بالتوقف.

اخذت العجوز الملابس الملطخة بالدم لتقوم بغسلها في جدول فيه ماء جار، فرائحة الدم لا يجوز ان تبقى داخل البيت اذ كان لهم معتقد آخر بهذا الشأن لا يمت الى الامور الصحية بصلة بل له علاقة بطقوس دينية.

طلبت من عبدالله ان يذبح دجاجة لطبخها لبسمة فهي تحتاج الى تغذية جيدة خاصة وانها نزفت كثيرا اضافة الى انها سترضع الطفل، كان عبدالله يصغي الي ويلبي كل ما اكلفه به، لكن العجوز امتعضت لانها ترفض الطب الحديث تكتفي بالطب الشعبي انها امراة قوية الشخصية لطيفة المعشر جميلة الشكل رغم عمرها الثمانيني نشطة الحركة ! وبدورها ناولتني بعض الاعشاب الطبية التي غسلتها فسقيت نقيعها لبسمة.

في اليوم الرابع بدأت بسمة برعاية اطفالها، بعد ان استطاعت ان تقف على قدميها ثانية. كنت اقدم لهم الرعاية، واقوم بتلبية متطلباتهم اضافة الى اعداد الطعام، تعاونني الطفلة الجميلة روندك ذات السنوات التسع، التي تشعر بمسؤولية مبكرة، تغسل الصحون والقدور وتنقل الماء من الجدول في الاسفل الى الدار للاستعمال العام، وترعى اخوتها الصغار وتهتم بنظافتهم وكأنها ربة بيت بالغة، كانت مدركة لواجبات الضيافة تحاول ان توفر لي اسباب الراحة اولا، والقيام بكثير من الاعمال التي تستطيع انجازها لتخفف عني تلك المسؤوليات. وفي الوقت نفسه لم تكن تطيق جدتها التي تكيل لها الضرب لأتفه الاسباب. ربطتني بهذه الطفلة صلة صداقة قوية رغم صغر سنها.

بقيت عند بسمة عشرة ايام الى ان استعادت قواها. ودعتها وانا مطمئنة لوضعها الصحي. كانوا متعلقين بي الى درجة ان الصغير راوند كان يلح علي بترك البيشمركة والبقاء عندهم! يقول اننا نحبك كثيرا ونتمنى ان تعيشي معنا.