شتاء 1985. الطقس شديد البرودة، والثلج يتساقط بغزارة ليغطي قمم الجبال وسفوحها وقد وصل ارتفاعه احيانا، اكثر من نصف متر. وسط تلك العاصفة الثلجية وذلك الهواء الذي ينفذ في عظامنا وكأنه حافة آلة جارحة، غادرنا (كلي هصبة) متوجهين الى بامرني الساعة الثالثة بعد الظهر، انا واخي ازاد والرفيق ابو نزار والشهيد ابو فؤاد. تجهيزاتنا وملابسنا ما كانت تحتمل ذلك الزمهرير، فأحذيتي صيفية وليس لدي قفازات ألبسها. كنا نسير وسط سهوب من الثلج بصعوبة بالغة، فكنا تارة نسقط على الارض واخرى نتدحرج. كان ابو نزار يعاني من الربو والريح تصفع وجوهنا وتعيقنا بعواصفها المدمرة عن التقدم الى الامام. تخلف ابو نزار بسبب وضعه الصحي عنا، اذ كانت نوبات الربو التي يقطعها السعال الحاد بسبب صعوبة استنشاق ذلك الهواء المتجمد، تضطره الى التوقف احيانا. لكننا مصممين على الصراع مع الطبيعة، فلا رجعة الى المقر بل مواصلة التقدم. الرفيق ابو نزار يناشدنا التقدم على امل اللحاق بنا، لكن كيف نتركه وهو لا يقوى حتى على حمل بندقيته، ولا يسمح لاخي ازاد ان يحملها بدلا عنه؟، كنت احس ان اوصالي قد تجمدت؛ اقدامنا مبتلة، وكذلك ثيابنا.

الآن وصلنا قمة جبل متين. لقد كانت حقاً، مسيرة شاقة. تزحلقنا وسقطنا عشرات المرات، لكن دون شكوى او تذمر او تردد، لا تعيقنا قسوة طقس ولا خوف من كمين، وكنا طافحين بالحقد على الطاغية، فهو السبب في اضطرارنا الى العيش وسط تلك الظروف الصعبة.

كان علينا بعد اجتياز القمة، الانحدار نحو السفح، كان النزول من الجبل في الظروف العادية اسهل من تسلقه اما وسط تلك الثلوج فقد كان ذلك يسبب لنا السقوط والتعثر، وقد يلقى الانسان مصرعه اذا وضع قدمه في غير موقعها الصحيح، خاصة وان العاصفة والريح جعلتنا نفقد السيطرة على خطواتنا. كان اخي ازاد يشعر بما أعانيه من البرد ولكن ماذا باستطاعته ان يفعل؟، وهكذا واصلنا الطريق الى بامرني، كنا نقطعه في الظروف العادية في ساعتين، ولكن هذه المرة استغرق ذلك منا خمس ساعات عصيبة.

دخلنا بامرني وقد ادركنا الاعياء والبرد، نجرجر اشلائنا المعلقة بخيط رفيع من الحياة. توجهنا الى بيت مام صوفي ابو صبحي وطلبنا تهيئة المدفأة الخشبية، والاهتمام بأبي نزار الذي يحتاج الى قدر اكبر من الرعاية. استلموا اسلحتنا فورا، وتقدمت الشابة الصغيرة حليمة لتساعدني وهي تتألم لما اعانيه. كانت آثار البرد واضحة علي، فالشفاه مزرقة وارنبة انفي محمرة وكذلك وجنتاي، لا احس بأنامل يدي التي لم اكن قادرة على تحريكها، قدماي مبللتان والجواريب والسروال (التراكسوت) والقمصلة كلها منقوعة. خلعتها جميعا عندما حضروا لي ملابس نسائية كردية، كان علي ان اخرج بعد ساعة لموعد في دار اخرى. وصل ابو نزار فاحضروا له الملابس ليتخلص من ملابسه المبتلة وكذلك حذائه والجواريب. كانوا يكنون مزيدا من الحب والاحترام لابي نزار. اما ابو فؤاد واخي ازاد فقد كانا يحتضنان المدفأة يجففان الملابس التي رفضا ان يغيراها. قدموا لنا وجبة العشاء التي كانت الرز والفاصوليا اليابسة، ثم تناولنا الشاي باقداح كبيرة ثم الشاي مع الدارسين وهو عادة يقدم للذين يعانون من البرد والنزلات الصدرية والقشعريرة (وهي وصفة شعبية كردية)، وحين نعمنا بقليل من الراحة والدفء، ذهبنا الى زيارة بيت اخر كنت على الاكثر ارافق ابو فؤاد الا في زيارة ابو فؤاد الثانية لهم اسقوه شاياً ذوبت فيه مادة الثاليوم السامة فاصيب على اثرها بالتسمم، وكاد ان يفارق الحياة لولا نقله الى طهران في ذلك الشتاء البارد للعلاج. انكشفت خيوط العملية حيث اتضح ان احد الاشخاص من بامرني وضع له الثاليوم في الشاي مدفوعا من السلطات الامنية، هذا ما عرفته حينه وهو من بامرني اثناء التحقيق معه فاودع السجن لعدة اشهر. ويبدو ان سوء الطالع رافق ابو فؤاد حتى النهاية، فبعد عودته من طهران اصيب بالكيمياوي في مقر بهدينان واستشهد على اثره. اما الشخص المرتكب الجريمة فقد اطلق سراحه، وما زلت وآخرين نتساءل حتى هذه اللحظة، لماذا وكيف اطلق سراحه؟ كم اتمنى ان اعرف السبب. كان يمكن ان نكون، انا والرفيق ابو نزار، ضحيتان ايضا، لولا الصدفة، ثم انكشاف تواطأ الشخص مع جلاوزة النظام للتخلص من المناضلين. كنت غاضبة على البعثيين فوالدتي في غياهب السجون البعثية وقد اقض ذلك مضجعنا انا واخي ازاد، ولكن ما باليد حيلة، فماذا كان بامكاننا ان نفعل؟.

في الليلة ذاتها، ووسط عواصف الثلج والبرد والريح العاتية، عدنا الى مقرنا في كلي حصبة، متسلقين الجبل وكانت معاناة الرفيق ابو نزار الشخصية الاثورية المحبوبة، اشد وطأة بسبب وضعه الصحي. اين انت الآن ايها الرفيق الذي اعتز به؟ لقد عملنا في سوح النضال لسنين طويلة، تجمعنا الذكريات بالرغم من خلافاتنا في العمل احيانا، الا ان صلتنا الرفاقية كانت وثيقة الاواصر، ولا زلت افتخر بها ووفية لذكراها.