1

حياتنا في الجبل في فترة الكفاح المسلح، كانت قاسية جافة وبدائية جدا، هذا ينطبق بالطبع ايضاً على الجانب الثقافي والفني، المتع الروحية كانت محدودة جدا. كتب شحيحة نتداولها وتنتقل من فصيل الى فصيل، أمسيات في الغالب فكرية وسياسية، قلة من القراءات الشعرية او نتاجات مسرحية. علاقتنا بالعالم الخارجي الثقافي/الفني كانت فقط عبر الراديو، هذا اذا كانت برامج الإذاعات حقا مصدر ثقافي ومصدر  استمتاع روحي.

•مسرحية (القرار) شتاء/ربيع ١٩٨٥

في ظل هذه الظروف ولدت رغبة لدى بعض الرفاق بالقيام بعمل مسرحي. كنّا نجلس في العراء ونحتسي الشاي انا ومجموعة من الرفاق ونتبادل أطراف الحديث. الآن لا اتذكر بالضبط كيف دار الحديث ووجدنا أنفسنا نتحدث عن المسرح وحبنا للمسرح، وامكانيات المسرح في ظروفنا ورغبات بالقيام بشئ بهذا الخصوص. اتذكر انني سعدت جدا بهذا الحماس للموضوع وسألتهم "هل ترغبون حقا بذلك؟" وتداخلت الأصوات  "اَي" "ليش لا" "خل نحاول" "شگد حلو لو نسوي شي". قلت لهم انني كنت في قاطع بهدينان وهناك قرأت مسرحية عنوانها (القرار). الجرأة ان نقوم بعمل مسرحي بظروف بدائية و الأكثر من ذلك أن يكون النص للكاتب والمسرحي الألماني برتولت بريشت، وذلك لعدم توفرّ نصوص مسرحية في الجبل.

حصلنا على الكتاب بنص المسرحية ووزعنا الأدوار وبدأت قراءة النص والتعامل مع اللغة العربية الفصحى. وانتقلنا اثناء وبعد حفظ الأدوار الى الحركة أخذت الپروڤات تتطور، مكانها كان في الهواء الطلق، و الأوقات التي يصادف فيها مطر كّنا نترجى الرفاق الآخرين ان يخلوا لنا احد الغرف لنقوم بالپروفا. لان العمل المسرحي هذا يضم عدة شخصيات، ست شخصيات، لم نوفق دائما في ان نتجمع بكل الپروڤات لتضاربها مع واجباتنا الأُخرى في الفصيل. يعني اذا كان احدنا خبّازا أو طبّاخا في ذلك اليوم، يأتي البقية له قرب التنور او عند موقد المطبخ لنراجع حواراتنا ونحفظها. وهكذا على حرارة التنور وموقد المطبخ وتحت رذاذ المطر الخفيف وعلى سطوح الغرف الطينية كانت أدوارنا المسرحية تنضج وتدفئ قلوبنا بفرح مواصلة العمل، يزداد إحساسنا بمسؤولية ان نقدم عمل يمتع الآخرين. اثناء الپروڤات كانت تتدفق الحلول في رؤوسنا لتفاصيل العمل الاخرى، مكان العرض، الديكور، الانارة. في النص كان علينا استعمال أقنعة لإخفاء شخصياتنا، من اين نأتي بالأقنعة؟ اتفقنا ان نلبس كاسكيتات كرمز للقناع. الكراسي كانت علب حليب نيدو كبيرة غلفناها بالأوراق قطع من سيقان الاشجار، الانارة كانت ثلاث لالات وعلب حليب نيدو، قمنا بقصها طولياً ووضعنا اللالات أمامها وبذلك حجبت ضوء اللالات عن المتفرجين وكانت كمرآة عاكسة زادت من قوة الانارة على مكان العرض/خشبة المسرح، وهكذا لعبت علب النيدو الكبيرة دوراً مهماً هنا. علقنا بطانيات النوم كخلفية للمسرح وفِي مقدمة مكان العرض علقنا پشتينين رمز لستار المسرح (الپشتين في الزِّي الكردي هو قماش طويل يُلف حول الخصر) وذلك لإيحاء المتفرج انه يدخل مسرح.

جاء يوم العرض، في اكبر غرفة من غرف الفصيل (تره هي مو كلش كبيرة بس هذا الموجود) وكل رفاق الفصيل كانوا هناك، متشوقون لما سنعرضه لأنهم كانوا على علم بالاستعدادات لهذا العمل، ولكننا كنّا حريصين على عدم كشف كل تفاصيل العمل لكي لا يفقد المُشاهد متعة الدهشة بمجمل العمل. بعد العرض كان فرح ملحوظ، والكل يشكرنا ويتمنى ان نقدم المزيد. حدث جديد في حياة الفصيل، حدث ثقافي فني وروحي و حديث يختلف عن الأحاديث اليومية المعتادة. مهما كان مستوى العمل الذي قدّمناه، خصوصا ان كل من شارك بهذا العمل ليس بممثل، إِلَّا اننا استطعنا أن نمنح أنفسنا متعة العمل المسرحي مُذ ولادة فكرة العمل حتى نهاية العرض وان نعطي متعة المشاهدة لرفاق الفصيل وخلق جو ثقافي في مساء من مساءات الجبل الرتيبة والطويلة. كانت تجربة جميلة استمتعنا بها جدا. للأسف الشديد في حينها لم نفكر بعرض العمل في الفصائل الاخرى القريبة من موقعنا.

اشترك في العمل المسرحي هذا كل من الرفاق ابو جهاد، حسن بلبل، ابوعشتار، الشهيد ئوميد وأبو صبا وانا.

كانت هناك أعمال مسرحية في مواقع أنصارية اخرى، لكني أكتب هنا عن اول مشاركة لي في هذا المجال في كردستان.

2

•مسرحية (الليالي البيضاء) شتاء/١٩٨٦

اخراج ابو ليث/علي رفيق

"الليالي البيضاء" رواية قصيرة للكاتب الروسي فيودور دوستويڤسكي

في زيارة لي لقاطع بهدينان صيف ١٩٨٥ وقعت بين يدي قصة (الليالي البيضاء). قرأتها وتذكرت انني شاهدتها كعمل مسرحي في براغ. كنت قد قرأت اعلان عنها في لوحة الإعلانات في القسم الداخلي، قدم العمل في حينها طلبة من قسم المسرح/ الفنون الجميلة، اذ عرضوه في قاعة متواضعة في مجمع الأقسام الداخلية التي كنت أعيش فيه، كان ذلك ربيع ١٩٨٢. احببت في حينها موضوع المسرحية وبساطة عرضه. قصة رومانسية عن حب من طرف واحد يبدأ لدى الشاب في الرواية لفتاة تجمعه الصدفة بها، وهذه بدورها بانتظار من تحب، من غاب عنها لأشهر ووعدها ان يعود. نصف حزن المحبين في العالم بسبب الحب من طرف واحد! والنصف الآخر فراگ ومن هالسوالف، خوش احصائية.

استعرت الكتاب من قاطع بهدينان وأخذته معي الى فصيل الاعلام، حيث اقامتي. واخبرت الرفيق ابو ليث اختصاصه فنون/سينما  عن فكرتي، ان هذه القصة ممكن تكون مشروع مسرحية خصوصا انها لا تضم سوى شخصيتين رئيسيتين والشخصية الثالثة تظهر فقط في اللحظات الاخيرة من القصة، هذا يعني ان ترتيب أوقات الپروڤات سيكون سهل. رحب الرفيق بالفكرة، وباشرت انا بنقل كل المشاهد الحوارية من القصة وربطها ببعضها، يعني تحويلها من قصة الى نص مسرحي. جهز النص المسرحي بين أيدينا بعد فترة من النقل والكتابة. قام بأخراج هذه المسرحية الرفيق ابو ليث. وظروف پروڤاتها لا تختلف كثيرا عن المسرحية السابقة. اتذكر في احد المرات كان الرفيق ابو عشتار، الرفيق الذي يمثل شخصية الشاب في المسرحية، كان حرس نهاري على قمة تلّة وكنا نعمل الپروڤات هناك اثناء حراسته وبين حين وآخر نسمع صوت طيران️ ونتوقف عن الپروڤات ونسمع اذا كان يقصد مقراتنا أم انه طيران بعيد متوجه وجهة اخرى. تخيَّلوا پروڤات مسرحية و صوت الطيران يحوم هناك، لان الطيران مو لعب جهال من يضرب، كلنا مررنا بالخوف من الطيران، اذا كان في كردستان العراق او في بغداد او البصرة، بغض النظر عن مصدره.

كُلف احد الرفاق (لا اتذكر مَن) برسم خلفية للمسرح التي تصوّر المكان الذي تجري فيه احداث المسرحية، جسر من جسور سانت بيترسبورغ حيث تلتقي الشخصيتان الرئيسيتان في قصة (الليالي البيضاء). في هذا العمل كانت ملابسنا مدنية، بعد السؤال هنا وهناك حصلت انا على تنورة وقميص وسترة نسائية من احدى الرفيقات، الرفيقة آفاق اذ كان بحوزتها بقايا حياة مدنية وحصل ابوعشتار على بنطلون وقميص. التغيير في الملابس في هذا العمل نقل المتفرجين الى جانب آخر، المدينة وأجوائها التي فارقناه منذ سنوات. حتى موضوع النص برومانسيته وحواره منح المُشاهد فسحة بإحساس العودة الى حياته الطبيعية في المدينة و ربما تداعيات لحب قديم تركه بعضهم هناك في الكلية او في المحلة.

ردود فعل المشاهدين بعد العرض كانت تشير الى فرح وتوق لمواصلة احياء عروض مسرحية تخرجنا من رتابة الحياة في الجبل.  الصورتان أدناه حصلت عليها من فلم من مجموعة أفلام عن حركة الانصار الشيوعيين التي قام بتوثيقها الرفيق ابو ليث.

 

3

مسرحية (مَن هناك!) للكاتب وليم سارويان

شتاء/ ربيع ١٩٨٧

قرأت مسرحية (من هناك!) ايضا في قاطع بهدينان، وهذه المرة كنت مقيمة في القاطع، يبدو ان مكتبة القاطع كانت أغنى من مكتبة فصيل الاعلام المركزي، لان كل مشاريع المسرحيات كان مصدرها من قاطع بهدينان. هذه المسرحية  كانت تضم شخصيتين، شاب و شابة. أحداثها تدور في نفس المكان وهو الزنزانة التي يقبع فيها الشاب والذي قام بهذه الشخصية الرفيق ابو آذار/ فصيل الحماية، أما الشابة فهي منظفة أو طاهية (لا اتذكر بالضبط) تشتغل في السجن. بدأنا القراءات الأولية للنص ومع محاولة حفظ أدوارنا انتقلنا الى الحركة. كالمعتاد نحاول ان نبتعد قليلا عن مكان تجمعات الرفاق، يعني من سيكون مُشاهدي المسرحية اذا كانت پروڤاتنا على مرأى من الرفاق!. الشخص الوحيد الذي كان يحضر كل پروڤاتنا هو الطفل مشمش ابن رفاقنا أم وأبو علي، كلاهما أصدقائي من بغداد. لماذا كان مشمش معنا؟ لوَلعه بمتابعة كل حدث جديد في الفصيل.

قمنا بعمل الديكور وهو عبارة عن زنزانة، جمعنا وقطّعنا من غابات المنطقة عيدان مستقيمة بنفس السمك وقمنا بتقويس وتجفيف عيدان اخرى. ربطنا كل هذه العيدان بشرائط قماش من قطعة ملابس قديمة وهكذا حصلنا على زنزانة بشكل نصف دائري توسطت مكان العرض وفَصَلت الشاب السجين عن المتفرجين، الديكور يزيد من احساس المشاهد بأجواء الحدث.

في هذا العمل احتجنا الى بعض المؤثرات الصوتية التي كانت ضرورية لسير الحدث في المسرحية. صوت محرك سيارة يُطفئ، صوت إغلاق باب السيارة، وكنّا بحاجة لصوت إطلاق رصاص، صحيح نحن جميعا في القاعدة مسلحون، لكن غير مسموح إطلاق أية رصاصة باجتهاد شخصي لان ذلك كان سيربك أمن كل المنطقة. المهم ذهبت للرفيق والصديق سالم وهو من ضمن الذين يعملون في المخابرة/اللاسلكي وطلبت منه ان يساعدني في قضية المؤثرات الصوتية. اخذنا المسجل وذهبنا الى المحرك الكهربائي/ الموَلدة، طلبت منه ان يشغله وبعد دقيقة يطفأه. سجّلنا وسمعنا وهكذا اقتنعنا اننّا حصلنا على صوت السيارة، وضربنا هنا وهناك من اجل الحصول على صوت يشبه صوت إغلاق باب السيارة. جرّبنا كثيرا ومع عدة اجسام حديد، برميل قديم وضرّبنا وسجلنا وسمعنا عدة أصوات حتى حصلنا على صوت يشبة صوت إطلاقات. حينها تذكرت عندما كان والدي يحتاج الى مؤثرات صوتية لا يمكن توفيرها في ستوديو الإذاعة يصبح بيتنا ورشة لخلق وتسجيل هذه المؤثرات الصوتية. عندما عمل مسلسل بغداديات لإذاعة بغداد في الستينات، كانت احدى الحلقات عن حمام السوق/الحمام الشعبي، فتح حنفية الحمام والمطبخ وملأ وعاء كبير بالماء ووزع علينا المهمات واحد يغرف ماء ويسكبه والآخر يدق (بالطاسة) على ارض الحمام وأحدنا يجيبه من بعيد (أخشن صوت بالعائلة) ويصيح (جااااااك). وحلقة اخرى من المسلسل كان موضوعها عن السباحة في نهر دجلة وواحد في حالة غرق، ملأ ابي (الطشت) ماء وطلب من احدنا ان يضرب بيديه على الماء، واعطانا كل واحد جملة يصيح بها، ومن ضمن الجمل التي بقت في ذاكرتي كان اخي يصيح بها (أُضرب چفّ ودفُّرّ). بعد سنوات طويلة عندما تعلمت السباحة فكرت (أها من هيچي الواحد لازم يضرب چفّ ويدفُرّ!!).

اعود الى المسرحية، لبسنا ملابس مدنية، نفس التنورة التي لبستها في عرض مسرحية الليالي البيضاء، لم يكن لدينا غيرها، لكن لحسن الحظ كان المتفرجون هذه المرّة من قاطع بهدينان. العرض كان ناجح وكل شئ مشى كما خططنا. والحضور كان جيد لان القاطع يضم عدة فصائل.

مفارقتان:

• قبل العرض: الطفل مشمش كان عنده واجب من معلمته الرفيقة آفاق ان يحفظ جدول الضرب، وهو على مدى ايّام يحاول ويقول انه لا يستطيع حفظه وانه صعب جدا. فإشترط ابو مشمش على مشمش اذا لم يحفظ جدول الضرب كله سيُحرم من حضور المسرحية. وهكذا بين ليلة وضحاها حفظ مشمش الجدول كله، في سبيل العرض.

• بعد انتهاء العرض وخرجنا عائدين الى فصائلنا على ضوء اللايتات، كنّا جماعة غير قليلة واذا بي اسمع احد الرفاق الذين يمشون على مسافة أمامنا يقول لرفيق آخر (أحلى شي بالمسرحية التنورة). ابتسمت وفكرت هالتعب كله!!!، لكن بعدها استدركت وحزنت على الشباب، جميعهم من مدن والآن عايشين بهالمنگطعة، بالطبع يرون التنورة حلوة. بالمناسبة التنورة كانت عريضة وطويلة!.

عندما اكتب عن موضوع المسرح في حركة الكفاح المسلح، فأنا اتحدث عن تجربتي البسيطة بهذا المجال وانا واحدة من الكثيرين من الرفاق الذين ساهموا وأبدعوا في محاولة خلق جوُ ثقافي فني ينعش حياتنا في الجبل. اكتب لأنني أودّ ان تشاركوني تفاصيل العمل والمفارقات التي صاحبته.

للأسف الشديد ليس لدي اَي صورة من هذه المسرحية.