بمناسبة زيارات الأنصار لقبور شهدائهم، أعيد نشر هذه الشهادة التي كتبتها قبل خمس سنوات.

في هذا اليوم (٦/٦/١٩٩٣) كان في سهل كويسنجق موكبان للتشييع. أحدهما لشخصية (كبيرة) من (أوك)، والثاني لامرأة قالوا اسمها (عائشة ڰولكه). وكان هناك فريق صحفي هولندي أراد تغطية الحدثين. وبسبب العدد القليل من المشيعين للموكب الأول والذي لا يتناسب مع المكانة المفترضة للشخصية المشيعة، انجذب الفريق الصحفي إلى الموكب الثاني. كان المشيعون في هذا الموكب هم تقريباً كل (كويسنجق) مضافاً لهم قراها القريبة وصولاً إلى أربيل. لفت انتباه الصحفية الهولندية عند توقف المسيرة والتهيؤ للدفن، رجل ذو هيبة وكاريزما واضحة، متوسط العمر، بشارب يميل للشقرة ومسلح بحزام على البشتين فيه مسدس. وقف على شيء يشبه المنصة يخطب في المشيعين. كان يتحدث بثقة عالية بالنفس. سألت الصحفية من هذا الرجل الذي يتحدث ومن هي (عائشة ڰولكه)..؟.

بالنسبة لي هنا وفي هذه المساحة الصغيرة التي أفترضها لقارئ عجول؛ من الصعب عليَّ الإجابة على سؤال الصحفية الهولندية حول الاثنين؛ عائشة ﮔولكه ومحمد الحلاق. لأن الاثنين في ذهني وفي ذهن غيري من الذين عرفوا حكايتهما مترادفان. لا يُعرف أحدهما دون الاخر. سأقصر حديثي مجبراً وقدر المستطاع على عائشة فقط.

بعد انكفاء المقاومة المسلحة في الجبل على أثر عمليات الأنفال الواسعة صيف 1988 والتي أتت على الحرث والنسل (أرض محروقة)، كانت عائشة معتقلة في أحد سجون أربيل وهي بعمر الكهولة. قالوا حينها أن المستشار (زاهر آغا) من أهالي كويسنجق ذهب بنفسه لمقابلة (علي حسن المجيد) مسؤول كل شمال العراق بصلاحياته رئيس جمهورية، عارضاً عليه أمر هذه المرأة: "هذه امرأة شيوعية منذ طفولتها وهي أم (محمد الحلاق) لهذا لا ينبغي إبقاءها في السجن لفترة طويلة". غير واضح هل كان هدف ذلك الآغا؛ إطلاق سراحها أم الاستعجال في إعدامها. لكن المؤكد أن (علي حسن المجيد) أبرق إلى مدير أمن أربيل (تم العثور على البرقية بعد انسحاب النظام من مدينة أربيل) يطلب منه أن يعدموا عائشة ويرموا جثتها أمام بناية المحافظة ليراها جميع سكان أربيل..! أجابه مدير الأمن العارف بكواليس هذه المدينة وريفها : "سيدي هذا غير ممكن.. لهذه المرأة ولأبنها سمعة كبيرة داخل وخارج أربيل وإعدامها بهذه الطريقة سيتسبب لنا بمشاكل كثيرة.. اقترح عليكم أن نعدمها وندفنها بشكل سري".

لكن، لماذا كل هذا الحقد على هذه المرأة وهي بعمر الكهولة..؟

تقول أبنتها السيدة (كلثوم) في شهادتها المسجلة لفلم (نصيرات): كانت أمي منذ طفولتها شجاعة وذكية. وكانت جميلة جداً ولهذا وصفوها بـ(ﮔولكه) تعني (الوردة). كانت تتعامل حتى مع السلاح، تجلبه وتخفيه وتوصله في سنوات الكفاح المسلح إلى الجبل. ومرات كثيرة شغلتنا نحن البنات سعاة بريد دون أن نعلم. كانت تحشو الأوراق (صحف، منشورات) في الوسائد وتخيطها. حتى أنها في إحدى المرات أخذتنا إلى البصرة مع عدد غير قليل من وسائد محشوة بالقطن، لنعرف عند الوصول أنها كانت مخازن سرية.

ويقول عنها الأنصار العرب؛ انها أمنا. والأكراد يسمونها (أم العرب). حين تصل إلى معاقلهم الجبلية، تجلب معها طعاماً يكفي لخمسين شخصاً مع ملابس وأحذية. وحين يسألها أبنها (محمد الحلاق) لماذا كل هذه الأثقال يا أمي؛ تجيبه: هذه للشباب العرب أمهاتهم بعيدات عنهم.

وحين جاء من يخبرنا (الحديث لأبنتها) أنه شاهد جثث خمسة من الشيوعيين الانصار في زيل عسكري جلبوهم إلى شقلاوة وأعطى أوصاف أحدهم، قالت أمي "هذا ابني بژدار" قالتها وكأنها تتكلم عن شخص آخر. استقبلت استشهاد ابنها الصغير بصلابة غريبة ومنعتنا من البكاء "أخت الشهيد لا تبكي".

حين اعتقلوها كنت معها تقول (كلثوم)؛ كنا في زيارة لقبر أخي الشهيد (بژدار) وكانت المقبرة مراقبة. اعتقلوا كل الذين كانوا معنا وكان العدد 18 شخصاً، رجال ونساء وأطفال. اعتقلوا معنا عائلة صاحب البيت الذي استضافنا في الليلة الفائتة. شاهدت أمي ونحن في قاعة كبيرة، تخرج من حقيبتها ورقتين وتبلعهما. ثم رمت الحقيبة لي وقالت:

- تبرأوا مني..! أنا لا أعرف أحد منكم وأنتم لا تعرفونني.

وبعد انتظار طويل جاء من يصرخ بنا: من هي عائشة ﮔولكه؟ أجابته أمي: أنا. قال: على الجميع الخروج. شغلنا مع هذه المرأة.

قالت إحدى السجينات بعد إطلاق سراحها؛ أن عائشة كانت موضوعة في زنزانة انفرادية. لكنهم بعد كل جولة تعذيب يجلبونها لنا في القاعة لنداويها. تكون مغمياً عليها. وفي إحدى المرات وبعد أن صحت سمعت إحدى السجينات وكان اسمها (نرمين) من عائلة تنتمي لـ(أوك)؛ تتحدث بيأس وجزع: سأعترف هذه المرة.. لم تبق لي القدرة.. لا استطیع تحمل الکهرباء.. لا أستطیع تحمل المروحة.. هذە المرة ساقول بکل ماعندي. رفعت عائشة رأسها لها وخاطبتها: أنت بهذا ستفضحين نفسك وزوجك وأهلك.. ولن تكسبي شيئاً.. لأنهم إذا أرادوا قتلك سيقتلونك بالاعتراف وبدونه..

وحين أطلقوا سراح عدد من السجينات، خرجت كل السجينات إلا أمي. لكنها أوصلت لنا مع إحداهن علبة ثقاب بداخلها قطعة قماش صغيرة قطعتها من ثوبها. لتقول لنا ما زلت حية وبنفس الثوب.

كانت ترتدي على عادة النساء الكورديات ثوباً مخرماً وشفافاً يغطي الملابس التي ترتديها المرأة، في العادة يكون ملوناً بألوان الربيع الزاهي، لكن ثوب عائشة كان أسوداً.

ومن شهادة عامل البلدية الذي دفنها بنفسه بجوار معمل الاسفلت على طريق الموصل، قال: أخذوها إلى المعسكر على طريق الموصل وهناك طرزوا ثوبها بالرصاص. تم التعرف على رفاتها بمساعدة هذا الرجل، الذي كان طيلة الوقت خائفاً لئلا يتهم هو الآخر بالجريمة. قال: أنا نزعت اسواراً ذهبياً من يدها ووضعته تحت رأسها كعلامة.

وكان التشييع في الحقيقة لثوبها المطرز بالرصاص أكثر مما هو لجثمانها الذي لم يتبق منه شيئاً.

(*) أوك: حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني.