ها قد مرت اكثر من سنة وانا اعيش في هذا الموقع، وادي منبسط تحيطه الجبال والتلال من ثلاث جهات، وتمتد الجهة الرابعة منه بمسافة ربما خمس دقائق مشياً لتنتهي على ضفاف نهر الزاب حيث يغدو الجو اقل حرارة على ضفافه. في هذا الوادي يقع مقر مجموعة فصائل للانصار الشيوعيين.

ظُهرَ ذلك اليوم 5 حزيران 1987 وبعد ان تناولت الغداء، ذهبت الى غرفتنا لأجلب قدحي لشرب الشاي، عدت الى مطبخ الفصيل وانا مذعورة. غرفتنا هذه هي واحدة من الغرف المنتشرة في المقر، الغرفة الاوسع هي غرفة مشتركة لعموم الفصيل، غرف للعوائل، غرفة للطبابة، غرفة المخابر/ الاتصالات، غرفة لمجموعة اعلام القاطع، غرفة لمكتب القاطع، هناك غرفة التموين، وغرفة المشجب والعتاد. غرف مبنية من الطين والحجر الجبلي. كان سقف غرفتنا التي نعيش فيها انا وزوجي ابو نسرين عبارة عن طبقتي نايلون وبينهما اكياس كبيرة(گواني نايلون) رُصفت بجانب بعضها، يعني كان السقف "مبطن" ليحفظ حرارة الغرفة في أشهر البرد، ويحمينا من حر الصيف. كل ذلك  مثبت على بعض اغصان سميكة مقطوعة من الاشجار تمتد بين جدران الغرفة، لتشكل معاً سقفها. في لحظة دخولي الغرفة سمعت صوت غريب في السقف، حركة شيء يُسحب، اخذت قدحي على عجل وعندما خرجت من الغرفة نظرت الى مصدر الصوت القادم من الفتحة الفارغة بين طبقتي النايلون التي تعلو باب الغرفة، فرأيت حية تزحف متجهة عميقا داخل طيّات السقف، يبدو ان وقع خطواتي اقلقت راحتها، واكبر من قلقها كان الرعب الذي اصابني. كثيرة هي المرات التي صادفتني الحيات في الجبل لكن هنا في مكان نومي، هذا اخر ما توقعته!، عندها تذكرت اننا خلال الشتاء الاخير من ذلك التاريخ كنّا نصيد كل ليلة فأرة، و تدريجيا اختفت الفئران وتصورت اننا قضينا عليها تماما، لكن يبدو ان فئران غرفتنا كانت عامل جذب لهذه الحية التي اصبحت بديلا لمصيدتنا. على اي حال، ابتعدت عن الغرفة مسرعة الى مطبخ الفصيل حيث يتجمع رفاق الفصيل لشرب الشاي، واخبرت زوجي بذلك، عدنا الى الغرفة مباشرة وحاولنا اخراجها بضرب السقف هنا وهناك لكن لم يصدر اي صوت ولم نستطع رؤيتها، اكيد انها إختبأت في وكرها في زاوية ما من السقف. قلت "لن انام في الغرفة هذه الليلة". لكن اين سأنام؟، فكرت انني سأُثبّت بطريقةٍ ما "كُلة" كنت قد خِطّها من قماش بشتين قديم، النوم تحتها ربما اكثر أمان بعيدا عن متناول الحية، وهذا ما حدث. غير ان الجميع لم يناموا في تلك الليلة سوى ساعتين ثلاث، لانها لم تكن كغيرها من ليالي الفصيل، إذ بعد مرور ساعات من اكتشاف حية السقف حصل حدث مروع، لم نشهده من قبل، حدث طغى على مشكلة الحية وكل الهموم الاخرى، وكما يقول المثل " اليشوف الموت يرضى بالسخونة".

انتهى ذلك اليوم نهاية جعلت ايامنا اللاحقة استثنائية، شيء بين الواقع والخيال، ايام عندما اتذكر صورها اليوم اشعر وكأننا بشخوصنا كنّا داخل فلم وثائقي او درامي. نهوضي الصباحي في ذلك اليوم كان مبكراً لاستلام مهمة المطبخ التي جعلتني مشبّعةً برائحة دخان الحطب وبالرماد المتطاير من موقد النار الذي اوقدته في الصباح الباكر لاعداد شاي الفطور، واعدت اشعال النار مرتين اخرى لاعداد وجبتي الغداء و العشاء، ففي ذلك اليوم كان دوري في"الخدمة الرفاقية"، اي اني كنت مسؤولة عن تحضير وجبات الطعام الثلاث لكل رفاق الفصيل.  بعد ان انتهيت من طبخ شوربة العدس، عشاؤنا لذلك المساء مع الخبز، و قبل وقت العشاء بحوالي نصف ساعة فكرت بالاستحمام لإزالة  تعب يوم طويل. كنت وما زلت كلما حلّ وقت المغرب اشعر بحاجة الى ان اكون مرتبة الهندام لان هذا الوقت من اليوم يذكرني بأجواء العصر والمغرب في صيف بغداد عندما كنّا نغيّر ملابسنا ونرتب حالنا ونخرج للتمشي في منطقتنا، كما لو ان العائلة كلها في اي لحظة ممكن ان يكون لها مشروع نزهة طارئ، او نكون في حدائقنا في بيوتنا وكأننا دائما بانتظار ضيف قادم.

قبل ان ادخل الحمام طلبت من رفيقتي ام علي ان تساعدني بتوزيع الشوربة في الصحون اذا تأخرت بالحمام عن وقت العشاء. كان مقر القاطع مزدحم جدا برفاق قدموا من مواقع اخرى لاجتماع مركزي هنا. ذلك المساء و في الساحة الاخيرة المنبسطة من المقر باتجاه النهر تجمعت الاغلبية بين لاعب و متفرج لمباراة كرة قدم، ومن بين اللاعبين كان زوجي ابو نسرين. 

دخلت حمّام فصيلنا/ فصيل الحماية، وهو بناء صغير قائم بذاته وفي ارض مكشوفة الا من بعض الشجيرات، يبعد حوالي عشرين مترا عن بقية غرف الموقع. وجدت في الحمّام تكنيك جديد وعلت وجهي ابتسامة لهذا الابتكار، كان معلق في سقف الحمام دوش رتبه الرفيق ابو حسن "حبيب ألبي" (تسمية انصارية أُطلقت عليه" اذ ان ابو حسن كلما ناديته او توجهت له بالكلام اجابك ب"حبيب ألبي" وهكذا شاعت تسميته بأبو حسن حبيب ألبي). الدوش هو عبارة عن علبة صفيح اسطوانية، ثُقِّبَت و ثُبِتت بداخلها صونده تمتد نهايتها الاخرى حتى ارضية الحمام، ولتشغيل الدوش تربط بها صونده اخرى يتدفق عبرها ماء النبع الجبلي الذي يزود موقعنا بالماء. هنا في هذا البناء الطيني الحجري حدث ما جعلني اشعر انني مقطوعة تماما عن العالم رغم انني اعلم ان المكان مليئ بالبشر. كان الحدث سريعا خاطفا بمقاييس الزمن، استغرق دقائق، لكنه بالمقاييس النفسية كان بطيئا لا نهاية له. ربطت الصوندتين ووقفت تحت الدوش، كنت فرحة بهذا الدوش، يذكّرني بالحياة المدنية، و بعد مرور دقيقة سمعت صوت آخر غير واضح لم استطع ان اميّزه فقد طغى عليه صوت الماء، هل هو صوت طيران؟؟.

بدون تردد ولقطع الشك باليقين فكرت بقطع الماء عن الدوش، في نفس اللحظة وانا افصل الصوندتين عن بعضها سمعت هدير طائرة مصحوب بصوت انفجار مدوي. شرعت بإرتداء ملابسي مباشرة وفكرة واحدة في رأسي ان ابقى داخل الحمّام، اذا لم تأتي الضربة اللاحقة على الحمام و تنهي حياتي، فأأمن لي أن اكون بين جدرانه لتحميني من شظايا الانفجار، هكذا فكرت. مثل طائر مبلل الريش محبوس تحت تهديد بندقية صياد وقفت في احد زوايا الحمام انتظر القادم وانا اسمع هدير الطائرة، دقائق تأرجحت خلالها الروح بين الخوف والشجاعة وتذبذب العقل بين خيارات جميعها بدت في لحظتها غير مجدية. بعد قليل جاء دوي انفجار اقرب واقوى هزّ المكان واصبح سقف الحمام المصنوع من الاغصان والطين، غربالاً ينثر التراب فوق رأسي وفي كل مكان حولي. في لحظات الخطر وحين يكون المرء بين فكيّ الموت، يغدو الدماغ مثل حاسوب يعمل بسرعة فائقة لايجاد الحلول والمقارنة بينها، حلول للنجاة، حاسوب بشري سريع تتداخل فيه كل الجوانب النفسية ويتقاطعان فيه العقل والعاطفة. بعد الانفجار الثاني وصوت الطيران يهدر في الاجواء كان فكري وخطواتي كلاهما يتذبذبان بين خطوة للامام باتجاه باب الحمام وخطوة للخلف للاحتماء بين جدرانه، وفِي الاخير قررت ان اخرج من مبنى الحمام، غلبت المشاعر العقل، اعرف انه قرار خاطئ، لكني فكرت لا اريد ان اكون لوحدي. لقد عشت غارة وقصف طيران سابقا لكن كنت اختبئ مع رفاق آخرين في موضع محفور تحت الارض او في مغارة بين الصخور. هذه المرة الامر مختلف، فهي اصابة دقيقة جدا للهدف اضافة الى انني بمفردي، لا اسمع انفاس اخرين، ولا كلمات نطلقها مازحين لنخفف من خوفنا، يشعر المرء دائما بالامان اكثر مع الاخرين وإن واجههم الخطر ذاته، والجو تشحنه شجاعة المجموع. تذكرت ان في طريقي الى الحمام  صادفت الرفيق سالم المخابر ورفيق آخر لا اعرفه، كانا يتمشيان بين مطبخ الفصيل والحمام، اخر رفيقين رأيتهما وأنا في طريقي الى الحمّام واقرب رفيقين للمكان الذي انا فيه، سأكون معهما. خرجت من الحمام والطيران يدوي  فوق المكان و اندفعت راكضة باتجاه هذين الرفيقين، كانا منبطحين على الارض، نظري مصوب نحوهما، اركض وقدماي تنزلقان في حذائي النايلون المبلل الممزق (حذاء سمسون) واسمع سالم، الذي تلقفني بنظره حالما ظهرت عند باب الحمّام، يصرخ "سمر انبطحي" وانا مصرة ان اكون قربهما، ولانه خلال تلك اللحظات التي كانت تبدو وكأنها دهر من الزمن لم يكف عن ترديد الجملة "سمر انبطحي" عندما جاء الانفجار الثالث او الرابع وجدت نفسي منبطحة على بعد مسافة امتار منهما ووجهي باتجاه الارض وانا اطوق رأسي بذراعيّ ويديّ. مضت دقائق ونحن على هذه الوضعية، بعدها انقطع صوت الطيران وإمتلأ الجو بالدخان ورائحة البارود القوية. هبط صمت وسكون رهيبين لفترة قصيرة، وقلق داخلي، بالتأكيد لدى الجميع، فيما اذا كان هناك جرحى وخسائر بالارواح. بدأت الحياة تدبّ بحذر في المقر، اصوات الرفاق ووقع خطواتهم، فجأة رأيت رفيق محمول من قبل مجموعة، لم استطع ان ارى وجهه لكني رأيت لون بدلته الشبيه بلون بدلة زوجي، شعرت بتسارع في نبضي و صور مختلفة ملئت رأسي، اسرعت الخطى نحوهم، اعرف ان اصابة اي رفيق هو حزن لنا جميعا ولكن من الطبيعي الوجع والحزن يختلف عندما يصيب احبتنا، انه شعور غريزي طبيعي.

ذهبت باتجاههم مسرعة، خجِلة من امنية في داخلي ان لا يكون المحمول زوجي، وامنية اخرى ان تكون الاصابة خفيفة، وجدتهم يحملون رفيقاً اصيب بشظية من شظايا الانفجار، لا اتذكر من كان،  فقد تسبب قصف الطيران بإصابة رفيقين بجراح.

هذه ليست المرة الاولى التي يتعرض لها مقرنا لقصف الطيران، لكنها مختلفة، فبالاضافة الى الجريحين  خلّف القصف رائحة شديدة كانت موضوع نقاش وجدل بين الجميع، وحاول المسؤولون العسكريون في الموقع التوصل لتشخيص الضربة إن كانت كيمياوية ام لا، الا إنهم لم يتوصلوا لرأي موحد، ومالت الكفة بأنها لم تكن كيمياوية.

كانت هذه الغارة مخصصة فقط  لضرب مقر الشيوعيين، لان مقر حدك الذي يقابل مقرنا على الضفة الاخرى من نهر الزاب لم يتعرض خلال الغارة لأي شئ، حتى ان طبيبهم جاء مبادرا لمساعدة جرحانا، وسمعته يقول ان هذه الرائحة تذكره بالسلاح الكيمياوي على قرى كان موجودا فيها. لانني كنت قد تدربت على بعض امور الطبابة على يد طبيبة الموقع الرفيقة ام هندرين وجدت نفسي مع من اهتم بالجريح عباس ره ش، الذي اصيب بشظية في كاحله. كيف تحملت النظر الى جرح مفتوح؟! اتذكر في احد الايام جاءت الى المقر بضعة نساء من احدى القرى ومعهن اطفالهن، لغرض مساعدتهن بازالة شظايا علقت باجسادهن واجساد اطفالهن نتيجة لقصف تعرضت له قريتهن، كنت كمتدربة اساعد الطبيبة ام هندرين، فقط مساعدة بسيطة، اثناء ذلك كنت اشاهد وهي تفتح موضع الشظية بالمشرط لتلتقط الشظايا العالقة باجساد هؤلاء النساء واشعر بالاختناق بسبب عدم تحملي المشهد فأعتذر منها قائلة (هسه اجي) اخرج من غرفة الطبابة واخذ نفسين عميقين واعود لمساعدتها، وهكذا بعد مرتين ثلاث خرجت وجلست القرفصاء عند جدار الطبابة وانا بحالة قريبة للاغماء، كانت محاولة فاشلة منّي لكسر هذا الحاجز النفسي، وخجلت ان اقول لها انني لا اتحمل منظر المشرط والجروح والملقط وهو يبحث عن مسكة مناسبة للشظية لسحبها. بعد ذلك ذهبت الى الرفيقة هدى وطلبت منها ان تكون مع الطبيبة بدلا عني، لاني كنت اعرف انها اقوى مني. والان اجلس مع اخرين امام جرح مفتوح للرفيق، اجمع القطن والشاشات المشبعة بالدم، لم اقم بالكثير لكن عندما تلمّ بنا مصيبة يحركنا هاجس اقوى لان نكون قدر المسؤولية ويصبح المرء جزء من الكل.

اتذكر اننا كنّا في حالة بحث عن توضيح لهذه الرائحة الشديدة، نظرات الجميع في تساؤل، تحسباً ان الرائحة هو سلاح كيمياوي قام البعض بغسل عيونهم وبللوا (خاولي او يشماغ/الجمداني) بالماء ووضعوها مثل كمامة، هذا الفعل ربما نظر له البعض بأنه خوف وتطيُّر.

خلدنا في تلك الليلة الى النوم في وقت متأخر منهكين من الاحداث. نمنا والتشخيص النهائي، رغم اختلاف وجهات النظر، ان الغارة لم تكن بالسلاح الكيمياوي.       

في حوالي الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، صحونا  انا وزوجي على صوت الرفيق عايد وهو يقف عند باب غرفتنا وينادي (ابو نسرين سمر احنه مضروبين كيمياوي الكل يصعد للاسناد)، والاسناد هو فصيل من فصائل الموقع لكنه اكثر ارتفاع من بقية الفصائل، اجبنا على نداء الرفيق عايد لنؤكد له اننا سمعناه، وواصل طريقه وهو يتوقف عند الغرف الاخرى وينادي بالاسماء. صعدنا مع الاخرين الذين كانوا يتقاطرون الى فصيل الاسناد، مسافة ثلاث الى خمس دقائق. وضع استثنائي جدا، هواجس كثيرة، ما الذي ينتظرنا، الحقيقة المخاوف كانت تختلف من واحد الى الاخر، ولكن الاغلبية كانت في حالة توازن. في تلك الليلة توفى احد الجريحين، الرفيق ابو فؤاد، نتيجة استنشاقه كمية كبيرة من الغاز . نجلس في فصيل الاسناد منتشرين في العراء تلسع اجسادنا برودة الليل، الجو العام في حالة صدمة، نسمع كلام هنا وهناك، نميز بعض الاصوات في ذلك الظلام، نرى جمرات السجائر. بدأ بعض الرفاق يمرون على الجميع وهم يحملون سطلات حليب نيدو ونسمعهم يقولون" اشرب رفيق ، اشرب وحاول تتقيأ"، جميعنا شربنا حليب النيدو ، الفكرة ان الحليب قد يساعد على التقيئو والاخير جيد للتخلّص من تأثيرات الغاز على اجهزة الجسم الداخلية. ظلام تتخلله حركة ضوء شحيح من المصابيح اليدوية للرفاق الذين يتنقلون بين هذا الجمع الغفير لمساعدة من يحتاج المساعدة، والصوت الذي نسمعه فقط اصوات التقيؤ و السعال. (خاوليات) مبللة نلمحها على بعض العيون.

عندما طلع ضوء النهار اتُخذ قرار بالصعود الى فصيل الدوشكا، وهو فصيل يقع على قمة جبل مطلة على مقرنا هذا، وتفسير ذلك هو الابتعاد عن مكان الضربة وان الغاز يقل في المناطق المرتفعة.

   لا اتذكر الوقت الذي يستغرقه الصعود الى ذلك الموقع، ربما ساعة. بعد ان اخذنا معنا مانحتاجه من مستلزماتنا الشخصية و اثناء الصعود وكانت الساعة حوالي التاسعة صباحا بدا ضوء الشمس اكثر شدة، وبدأت حرقة غير طبيعية بالعيون، نظلل عيوننا بأكفانّا ولكن لا جدوى. عندما وصلت مجموعتنا الى قمة الجبل، كنّا خائري القوى، لا بسبب الصعود ولكن تعب اليوم الفائت وليلة بدون نوم تقريبا، والمشكلة الاكبر اننا لم نعد قادرين على فتح عيوننا، حاله يصعب وصفها، عيون حرقها الغاز، كان وقوع الضوء على العين بمثابة نار حارقة، العين جمرة مشتعلة بدون ضوء فكيف لو تعرضت له. غياب النظر في مكان جديد لا تحفظ تفاصيله، بتضاريس مختلفة، صعود ونزول، صخرة هنا وشجر هناك، لا يستطيع المرء حتى الذهاب الى التواليت دون مساعدة.

موقع الدوشكا الجميل بطبيعته، شجره ومائه واطلالته البانورامية الرائعة من هذا الارتفاع، هذا الجمال احتضننا و نحن في اضعف حالاتنا.

اختلفت شدة الاصابة بالكيماوي من شخص الى آخر، حسب قربنا او بعدنا من الموجة الانفجارية للقنابل، داخل الغرف او في العراء اثناء القصف، وان كان في منطقة عالية او منخفضة، فالبعض كانت اصابتهم شديدة، أدّت الى الوفاة، وهما الجريح ابو فؤاد، ليس بسبب جرحه فالاصابة لم تكن في منطقة خطرة، والرفيق ابو رزگار توفى بعد أيام من الضربة، كلاهما استشهدا بسبب استنشاق كثيف للغاز، وهو غاز الخردل و يدعى ايضا بغاز  الفقاعات اذ يتسبب في تكوين فقاعات وحروق على الجسد وفي الاجهزة الداخلية وبالذات الجهاز التنفسي. أخرون كانت اصابتهم شديدة وشكّلت حالة قلق على حياتهم، صعوبات في التنفس وحروق جلدية شديدة. والاكثرية الباقية اقتصرت اصابتهم على ضيق في التنفس وحروق العين وعدم القدرة على فتحها لمدة تراوحت بين عشرة أيام الى اسبوعين. قلة قليلة لم تصاب وخرجت سليمة نوعا ما من هذه الضربة، وهذه المجموعة الاخيرة والرائعة من الرفيقات والرفاق هم الذين نهضوا بالمهمات اليومية وبخدمة كلْ المصابين على مدى اسبوعين واكثر، اي انهم كانوا يقومون بالاضافة الى الحراسات النهارية والليلية والطبخ والخبازة، برعاية المصابين في كل تفاصيل حياتهم اليومية، تبدأ بجولات صباحية لتغسيل عيون المصابين، وتتكرر هذه العملية عدة مرات خلال النهار، ومساعدتهم في الذهاب الى التواليت او الحمام، غسل ملابس الجميع. كل هذا قاموا به بحب وصبر وكما نقول من القلب مع كلماتهم المشجعة و المزحة المعجونة بالحزن ليخففوا عنّا الالم. كنّا عدد هائل، بحدود مئة وخمسين مصاب منتشرين في كل مكان على ذلك الجبل في ذلك الموقع الصغير، ومعنا اطفال اصيبوا جميعهم، بكائهم وأنين الذين تعرضوا لحروق شديدة بسبب الغاز، جميع ذلك هو صور من الايام المروعة التي عشناها.

اتذكر كنّا في المكان الذي  شغلناه ،نسمع جملة "نزل راسك، دنگ شوية!" تتكرر كلما مرّ احد المصابين ومعه شخص يساعده. بعد اكثر من عشرة ايام عندما بدأنا بصعوبة نفتح عيوننا قليلا، فهمنا ان في الطريق كان هناك فرع كبير من شجرة  يمتد منخفضا على الممشى القريب من مكاننا، وكل من يمر لا بد ان يخفض رأسه ليتجاوزه، ضحكنا حينَها وفهمنا سبب جملة"دنگ راسك ". وفي تلك الايام والجميع في عمى مؤقت، سقط وبدون سابق انذار فرع ضخم من شجرة كبيرة على مجموعة غير قليلة من الرفاق كانوا ينامون في ظلها، والصدفة وحدها جعلتهم يخرجون سالمين من هذه المفارقة العجيبة، تصور ان ينجو المرء من الموت بالسلاح الكيمياوي ويموت بغصن شجرة!! لكنها مرّت سلامات.

اكتب هنا عن حالتي خلال دقائق الضربة الكيمياوية، ولكن لكل واحد منّا ومن المكان الذي كان فيه محاولاته في النجاة ومشاعره وتفاصيل تلك الدقائق وتلك الايام. . ما كتبته لا علاقة له بمفهوم البطولة، المرء تحت قصف طيران، أنا كنت فقط انسان يواجه خطر ويحاول ان يخرج منه بسلامة، انا واحدة من مجموعة كبيرة كانت تعطيني الدفع والقوة، وهذه حقيقة لا يمكن ان انساها، فشجاعتي وتحمّلي لكل ما مررت به هي امتداد لشجاعتهم و صبرهم.

على هامش الضربة الكيمياوية:

•عندما عدنا الى موقعنا القديم، وجدنا خزان (قِدر) الماء في الحمام، الذي نسخن فيه الماء بموقد خارج الحمام و مثبت بالطين، وجدنا هذا القِدر وبسبب ضغط انفجار القنابل قد ارتفع قاعه الى الاعلى وكأنه قُص بمقص وفُصل عن جدران القِدر الّا في منطقة صغيرة بقى مثبت في مكانه. عندما رأيت ذلك فكرت اي ضغط هائل سببته تلك الانفجارات على هذا المكان.

مشاهد تلك الضربة الكيمياوية، هذا الفعل اللاانساني لمجرم النظام صدام، لا يمكن لأبرع الكتاب والمخرجين أن يصوروها و يرصدوا تفاصيلها.