بعد خروجنا من القرية دون أية مشاكل، بدأنا نستجمع قوانا في محاولة للتغلب على الإسهال ومواصلة الطريق عبر قرية دوغات، لوجود موعد سريع لـ صباح مع أحد الرفاق القدامى من القرية، إذ كلفه بمهمة الاتصال بركيزة حزبية في إحدى المدن. وبالرغم من أدراكنا لخطورة التوجه إلى دوغات في ظل الهستريا التي أصابت السلطة بعد عملية (كه ر كاميش)، التي أدت الى إستنفار واستعراض السلطة لقوتها بهدف تخويف الناس، بالإضافة الى وضعنا الصحي الذي لم يكن يسمح لنا بالمناورة في الحالات الطارئة، لكن أهمية الموعد حسب صباح دفعتنا إلى الإصرار لتنفيذه، حيث وصلنا الى هناك واجرى الرفيق صباح لقاء قصيرا مع الرفيق المعني في فناء منزله الذي يقع على طرف من القرية، ثم عدنا سريعاً لمواصلة الطريق إذ أكد لنا الرفيق إن مفارز السلطة ترددت بشكل مكثف على نقاط مختلفة من المنطقة بما فيها القرية.

في الطريق باتجاه الجبل في كند دوغات، فقدنا الاتجاه لأكثر من مرة، لكن دائما كنا نحاول السيطرة على الموقف واتخاذ الاتجاه الصحيح حتى وصلنا بالقرب من "ره قسى"* الواقعة ضمن أراضي قرية شيخكا. عرفنا بوجود رعاة أغنام بسبب نباح الكلاب التي هاجمتنا من مسافة بعيدة، وبعدما اقتربنا من خيام الرعاة سمعنا صوتا يطلب منا أن نفصح عن أنفسنا، قلنا نحن بيشمه ركه، فقام بطرد الكلاب عنا ودعانا إلى الخيمة بحذر شديد. تبين إنه من سنجار جاء إلى هنا لإنقاذ ماشيته من الجفاف الذي أصاب سنجار، بدوره سألنا من أية مجموعة نحن؟، فقلنا له: نحن من الحزب الشيوعي، قال: كان رفاقكم البارحة في وقت متأخر من الليل عندنا هنا بعدما نفذوا عملية عسكرية على الشارع وكان معهم جريحاً. وبسبب حالته الحرجة توفي مع الأسف الشديد. وأكد بأن اسمه سنحاريب. وتابع قائلا: نحن نعبر عن حزننا لخسارة مثل هؤلاء الأبطال، حاولنا مساعدة المفرزة بقدر المستطاع  وأعطينا لهم دابتنا لنقل جثمان الشهيد إلى الجبل.

استفسرنا من الرجل إن كان بالإمكان أن يعمل لنا شايا للتخلص من ما تبقى من الإسهال، ففعل رغم تأكيده إن اكتشاف النار من قبل قوات السلطة سيعرضنا معاً إلى مصاعب ومخاطر، لكنه عمل من أجل أن لا تظهر أية علامة. وجهز الشاي بعد دقائق قليلة، شربناه ثقيلا ومراً. بعد هذه الاستراحة القصيرة ودعنا الرجل وعائلته بعد ان حذرنا من وجود كمائن في أنحاء عديدة من المنطقة باتجاه الجبل خاصة على الشارع العام الذي يمر بالقرب من قرية شيخكا، وأكد مشاهدته لتحركات كثيفة لمفارز السلطة في المساء قبل حلول الظلام .

كان ظلام الليل حالكاً.. الرؤية صعبة للغاية.. ومما زاد في الطين بله الإسهال الذي لازمنا لفترة طويلة،  بالإضافة إلى الارض الوعرة بسبب حرقها من قبل الفلاحين بعد الحصاد لكي يساعد الرماد على خصوبة التربة تمهيدا لحرثها في الموسم القادم، فتحول كل شيء في تلك الليلة إلى سواد وظلام.

بحذر شديد وصلنا إلى نقطة معينة بين شيخكا والشارع، ومنها بدأنا نراقب عن كثب ما إذا كانت هنالك كمائن. في الحقيقة لم نتمكن من رؤية أي شيء حتى اقتربنا من الشارع بالرغم من إننا كنا نستخدم النواظير لكشف ألطريق. لم نستطع تحديد المسافة التي تفصل بيننا وبين الشارع، لكن مفاجأة ما أرشدتنا إلى طريق العبور بين نقطتي كمين محكم على الشارع التي عرفنا من خلالها إننا قريبون جدا منه، إذ وصلت مدرعة دورية تسير بين نقطتي الكمين الذي على الشارع من اليمين، فأضاءت الشارع بشكل واضح، وشاهدنا الجنود يتحركون نحوها كأنهم استلموا منها شيئاً معيناً أو أمراً ما. بعد دقيقة أو دقيقتين تحركت المدرعة وتوقفت ثانية على مسافة لا تتعدى 300 متر على الشارع من الجهة اليسرى. تكرر نفس السيناريو الذي حدث مع النقطة الأولى من الكمين، وعلى وجه السرعة قررنا اختراق الشارع وعبوره من نقطة تقع بين نقطتي الكمين بعدما انكشف لنا في الوقت المناسب، وفي دقائق سريعة وجدنا أنفسنا في الجهة الثانية من الشارع.

لكن المدرعة لم تترك لنا المزيد من الوقت حتى عادت ثانية... كنا قريبين جداً من الشارع.. على الفور اقترح صباح أن نقذفها بسيل من نيران رشاشاتنا، لكني سحبته إلى حفرة قريبة لئلا ينكشف أمرنا وقلت له كيف تريدنا أن نقاوم سيارة مدرعة ببنادق كلاشنكوف ؟!.. انتهى الأمر سريعاً، مرت المدرعة مسرعة ونحن بدأنا مسيرنا نحو قرية طفطيان.

بعد الابتعاد لمسافة معينة من الشارع شعرنا بالأمان، لكن التعب تسلل إلى أجسادنا. أطرافنا لم تعد قادرة على حملنا والسير بها لمسافة أطول، وبينما كنت أقترح على صباح أن نبقى في منطقة قريبة من الجبل  لاستعادة نشاطنا وثم مواصلة الطريق في الصباح إلى مخبأنا، قال صباح: لكن لابد أن نمر على قرية طفطيان .. فقلت له: وماذا سنفعل في القرية إذ نحتاج إلى المزيد من النوم ..! وهناك لا تتوفر الفرصة المناسبة لذلك .. فقال إن بدلتي متهرئة لا تصلح أكثر، لقد تمزقت، لابد  لي أن اشتري غيرها .. فقلت:

ـ من أين تشتري مثل هذه البدلة؟ والقرية ليس فيها محلات لبيع الملابس.. ! فقال بلى .. دهشت.. قلت أين؟!.. قال: قبل فترة ابتاع  المختار"مام قوجى" * بدلة من المدينة.. لكنه عندما وصل إلى البيت وجدها طويلة على قامته وعريضة على خصره لذلك اتفقنا أن اشتريها أنا مقابل سعر معقول... !!! ضحكت كثيراً وضحك هو الآخر.

بعد وصولنا إلى مسافة معينة من القرية اخترنا البقاء في مزرعة لأزهار عباد الشمس ونمنا بحذر خشية وجود قوات الجيش في القرية.. عندما بدأ الفجر بإرسال خيوط أشعته في تلك السهول المترامية الأطراف، وجدنا كمائن الجيش تنسحب من الشارع.. كانت أعدادها كثيرة.. راقبنا القرية فكانت خالية من أية حركة مشبوهة، عندها اتجهنا إليها.. هناك تركت صباح يذهب لشراء بدلة  المختار مام قوجي، و بحثت أنا عن عائلة لأتناول فطور الصباح عندها.. ما أكثر الطيبين في هذه القرى، بعدها توجهنا لمخبأنا في الجبل .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامــــــــــــــــــــــــــــــــش

- كه ر كاميش - منطقة معروفة تقع على الشارع المذكور وهي ضمن أراضي قرية ختارة، وترجمتها بركة الجاموس، فيها كميات من المياه المالحة، وهي غير صالحة للشرب .

- ره قسى -  وادي إلى الجنوب من قرية شيخكا فيه مزار يسمى " أيزدين أمير " يحج إليه أهالي قرية شيخكا  في مناسبات عديدة ويؤدون طقوس طوافه في الربيع من كل سنة .

- مام قوجى- من أهالي قرية طفطيان كان مختاراً فيها، يتميز بطيبة قلبه وتواضعه، وكان رجلا طويلا وضخما لا يقارن البتة بقامة صباح وجسمه النحيل في تلك الفترة، وهذا ما دعاني الى الضحك عندما أراد صباح شراء بدلته الكبيرة، توفي الرجل بعد سنوات من هذه الأحداث.