في البيت حدث شيئان مفاجئان لنا ...

في الصباح كعادتي أذهب الى العمل في الشالجية واقضي يومي هناك في العمل، وارجع للبيت بعد نهاية الدوام، في أحد الأيام وأثناء عودتي للبيت رأيته (البيت) مقلوبا وسكان إحدى الغرف كانوا جالسين امام غرفتهم قرب الباب وكان منظرهم مريب، فلما دخلت البيت سلمت عليهم فكان ردهم للسلام غريبا، فأسرعت للغرفة وقلت لأبي لنا "الوضع ما مريح يمكن هذوله أمن" فضحك ابو لنا وقال "لا هذوله ربعنه" فسألته من أين عرفت؟ قال "أحدهم صديقي وقد أخبرني بذلك" وكانت الواقعة أن المرحوم عبد الأمير وهو محامي الحزب في ديالى التقى مع ابي لنا فأحدهما سأل الآخر"هاي إشجابك هنا….. نفس اللي جابك" فعرف كل منهما إن كل الموجودين في غرفتينا وفي غرفتهم من الرفاق الشيوعيين الهاربين من محافظتاهما (فلا نحذر منهم ولا هم يحذرون منا).

ادى هذا التعارف الى زعل مسؤولنا الحزبي الرفيق إدريس (ابو سلام) الذي إمتعض من عدم حذرنا ومن العلاقات المفتوحة التي تكونت وقال لي بالحرف الواحد إنكم أصبحتم الآن أكثر عرضة للخطر، ثم أوضح بأن الحزب يعرف إنهم رفاق شيوعيون مختفون مثلكم ولم يخبركم لكي تتطبعوا على الحذر وعدم كشف أنفسكم .

المفاجأة الثانية هي إعتقال الرفيق أبو عائدة في مكان عمله في إحدى الورش في الشيخ معروف، حيث يعمل لحام ولدن وكان قبل ذلك يعمل فيها قبل إنتقاله الى البصرة، حيث تفاجأ البعثيون ورجال الأمن الذين يعرفونه منذ ذلك الوقت السابق بوجوده في الورشة فعملوا على إعتقاله .فكان من جراء ذلك لزاما عليّ ترك البيت والسكن في مكان آخر، فوجدنا حل مفاده ترك السكن لفترة إسبوع أو أكثر فكان المكان الآخر هو الخالص في ديالى وتم ترتيب ذلك عبر رفاق الديوانية الذين معنا في البيت، حيث كان من ضمنهم الرفيق "ابو مها" وهو رفيق معلم يسكن واهله في الخالص ولديه بيت جديد تحت البناء في تيلتاوة فتم الإتقاق معي على الإنتقال للسكن مع عائلته والقيام ببعض الأعمال التكميلية في البناء، جرى ترتيب ذهابي الى هناك، حيث تعاون معي رفاقي البصاروة من أجل توصيلي، فقد كان هناك شاب من اهل البصرة يتردد على أحد رفاقنا في البيت وهو شاب مؤتمن ويقوم بتنفيذ مهام في البصرة لا اعرفها ولكني أعرف أمانته وحكمته، هذا الشاب يعمل سائقا على سيارة تابعة لأحد معامل صناعة الجزء الذي يلامس الأرض "الدبان والكعب" للحذاء مصنوع من مادة البوليتان يقوم بتوزيعه على صناع الأحذية في كل العراق. تعهد هذا الشاب بتوصيلي الى بيت اهل الرفيق ابو مها، بمعية شقيق الرفيق الذي سيأتي من الخالص، وهكذا تم الموضوع فكانت عائلة الرفيق ابو مها غاية في حسن الإستقبال وفي الكرم والأخلاق العالية، لقد كانت فرحتهم بي وكأنني إبنهم أبو مها قد عاد اليهم، ولابد هنا من التوقف عند شخصية والدة الرفيق التي تشعرك للوهلة الأولى بكرم وطيبة الأم العراقية الحريصة على سلامة ولدها ورفاقه، رأيت أم الرفيق ابو مها بنفس صورة أمي. وتذكرت موقفها البطولي في المستشفى عند زيارتها لي، أم الرفيق ابو مها تتصف بقوة الشخصية وبالحكمة والتضحية بنفسها لبقاء ولدها ورفاقه سالمين وكذلك كانت بقية العائلة، التي قضيت عندهم تسعة أيام انجزت فيها بناء الممشى في الصالة، وبعد أن عرفت إن ابو عائدة قد أطلق سراحه عدت بنفس السيارة الى بغداد، بعد أن ودعت العائلة الكريمة .وفي بغداد كلفني الحزب باللقاء بالرفيق ابو عائدة الذي اوضح مجريات إعتقاله، وكيف إن الأمن كان يريد معرفة مكان سكنه في بغداد حيث أخبرهم إنه لم يكن له سكن سوى المبيت في المراقد المقدسة المنتشرة في العاصمة، وبعض الأحيان في الورشة التي يعمل بها ورأى الحزب أن يعود الرفيق أبو عائدة الى البصرة .

العودة الى مسكن الحيدرخانة

عدت للسكن في نفس البيت ولكني لم أعد للعمل في الشالجية، وحرصت على اللقاء عصر اليوم الثاني مع رفاقي من البصرة وهم كل من الرفيق عبد الباقي شنان (ابو وفاء)، الذي كان موقوفا معي في مديرية أمن البصرة واضرب عن الطعام لمدة 51 يوم واخيه عبدالحسن وابو أكرم وابن خال ابو وفاء وكنا نتبادل أخبارنا وتطورات مكوثنا في العاصمة، وكان هاجسنا كيفية الحصول على إمكانية مغادرة العراق وبعد اللقاء نعود كل الى البيت الذي يأويه. في خارج البيت رتب لنا الرفيق ابو لنا وهو الملحن العراقي الكبير طالب غالي لقاء مع نسيبه المهندس سالم (ابو إيناس) شقيق ام لنا الذي كان لديه مقاولات في بغداد لدى وزارة الشباب لبناء مراكز للشباب، وكان عنده عقد عمل لأعادة ترميم وبناء البيت لأحد كوادر الوزارة وأتفق معي للعمل هناك وكنا في العمل الشهيد عبد الله وحسن الملاك وودود وهو شاب رائع وابو لنا والجميع كانوا من البصرة، البيت كان يقع في العيواضية وهي منطقة راقية سكنها اكابر بغداد ومالك البيت هو ابن الشهيد يونس السبعاوي شهيد ثورة 1941 او ما سميت حركة رشيد عالي الكيلاني، العائلة محترمة فبالرغم من إنهم في البيت إلا إنك لا تسمع صوتا فيه، وبه حديقة غناء تكثر فيها أشجار الفاكهة، خاصة البرتقال والليمون والنارنج، ولم نقطع ثمرة واحدة.

شرح لنا المهندس سالم مهمتنا في العمل وهي: أعمال ردم بئر قديم في حديقة البيت ومد شبكة مجاري وربطها قي المجرى الرئيسي، وقلع كاشي قديم لإحدى الغرف ورصف كاشي موزاييك جديد بدله وعملنا بهمة وهدوء، فأنجزنا العمل الموكول لنا كله في يوم واحد، وعندما عاد صاحب البيت من عمله عصرا إنبهر من الإنجاز، ومن سلامة الحديقة وفواكهها، فسأل الإستاذ سالم مستغربا، "هل أنت متأكد إن هؤلاء وهو يقصدنا في سؤاله، هم عمال بناء؟ " فأبتسم صاحبنا وقال لماذا؟، فقال له الرجل "اولا كل هذا الإنجاز في العمل غير معقول وثانيا لم تدني أنفسهم على ثمرة واحدة من الحديقة ولم يتركوا مخلفات العمل توسخ الحديقة"، قال له المهندس: هؤلاء أفضل العمال لدي أستعين بهم جميعا فقط للعمل عند الناس الذين أحبهم وأريد لهم الخير، فقال الرجل منتشيا "ما دام هؤلاء العمال الشرفاء موجودين فسأقوم ببناء كل ما يحتاجه البيت هذا أولا وإنه إعتبارا من يوم غد سيكون غداهم عندنا في البيت يتغدون معي وانت معهم"، فقد كنا قبل ذلك نتغدى في مطعم في محلة العيواضية.

وهكذا أستمرينا في العمل وهو الذي وجدنا فيه مكانا جيدا للإختفاء. في أول غداء لناء عند هؤلاء الناس طبخوا لنا الدولمة البغدادية، وطبخ الدولمة في العرف العراقي والبغدادي خاصة يعني إن المحتفى به شخص عزيز، وعند عودة رب البيت من العمل جلب معه صحيفتين من الصحف العراقية هما طريق الشعب جريدة الحزب الشيوعي العراقي، والثورة جريدة حزب البعث، فعمل الثورة سفرة للطعام وإحتفظ بطريق الشعب، فأوضح لسالم إن الثورة بعد قراءتها لا تصلح اكثر من سفرة للطعام اما طريق الشعب فيمكن الإحتفاظ بها للتثقف بها والإستزادة من المعلومات التي فيها .

كان اللقاء مثمرا

دأبت على حضور اللقاءات التي نجريها نحن الذين خرجنا من البصرة سوية واعني الرفاق عبد الباقي شنان (ابو وفاء) وعبد الحسن شنان (ابو علاء) والذي سمى نفسه جعفر، وابو أكرم وأبن خال ابو وفاء، جعفر شقيق ابو وفاء كان كادرا عسكريا وفي نفس الوقت كان من ذوي الإختصاصات الصحية، وكان قد حدثنا ذات مرة عن علاقته بصديق له من الموصل إسمه محمود، الذي كان شخصا شجاعا مقداما، يهابه ويحترمه ابناء الموصل وخاصة الأشقياء. في هذا اللقاء تذكر الرفيق جعفر صديقه محمود وأخبرنا ربما يساعدنا محمود في الخروج الى سوريا، ولذلك فإن الرفيق ابو علاء عزم على السفر من بغداد الى الموصل للقاء محمود والإستنجاد به، وهكذا تقرر أن يسافر جعفر وابن خاله الى الموصل لبحث هذه الإمكانية مع محمود، وفي اليوم الثاني سافر الإثنان الى الموصل والتقينا في اليوم الثالث، فكانت أخبارهما مشجعة وطلبا منا الإستعداد للسفر، بدوري أخبرت الرفيق ابو سلام بالتطورات وطلب مني عند الوصول الى دمشق علينا التوجه الى مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وأعطاني كلمة الإتصال، التي يتم من خلالها الإتصال مجددا بحزبنا .

عن جريدة النصير الشيوعي العدد 13