لم يخطر على بالك يوما ان تتسلل عبر حـدود وطنـك وان تواجه الصعوبات والمخاطر او حتى الموت. عبرنا الحدود عن طريق نهر دجلـة الذي كان هديره جارفا، عبرناه بوسائل بدائية جدا ولم تخضع لتصوير الاقمارالاصطناعية بفضل حنكة ابو محمود ومساعـده ابو حسن ، فتيممْنا بطمي النهر وتراب الوطن ، لحظات والمفرزة فوق الجرف تعصر ملابسها ، تلملم نفسها ، تقطع الطريق الدولي لتسير بقافلة صوب الجبل الابيض بعد ان مكثت غاطسة في مستنقع لغرض الاختفاء والتمويه من الطيران الذي ظل حائما فوقنا حتى الغروب . وما ان وصلت المفرزة، فاذا بقطع جبلي امامك يغلق عليك النفاذ كأنّ العالم قد انتهى ، ماعـز يتقافـز من حولك وبرد يقص الظهر. اشار قائد المفرزة: ليس لنا خيارا الا المكوث في الاعالي فهناك مغارة (شكفته) وما ادراك ما الاشكفته ، الاشكفته غار مفروش، ارضيته من بعرورالماعز وفضلات الحيوانات والقراد واغصان متفرقة هنا وهناك، ورائحتها كأنها المقصب فكانت هي المأوى ، والحافز الذي اوصلنا لهذا المكان العالي هو ضحك وسخرية الشهيد ملازم جواد يقول ؛ انّ امي تظن بانني الان انام على وسادة مطرزة، ماذا اقول لها ؟ . قضينا ليلتنا بقصف يكاد يفجر طبلات الاذان .

مبكـرا منذ الصباح والمفرزة عاودت المسير والتجوال بالوديان وانهارها وهديرها والسواقي ورقراقها والجبال واكتافها المغطاة بالاشجار والخضرة والزهر الاحمر والاصفر والندى ، ومن السفوح تلوح للناظر اديـرة بيضاء بانعكاس ضوء الشمس عليها ، تقفز للمخيلة تصورات وكأن كازانتزاكـيس يمكث فيها يخط مخطوطته الاخوة الاعـداء، وبنهايـة الوادي يستريح جيفــارا مع رفاقـه وسوف يكون بهم اللقـاء . وما هي الا ساعات معدودات وصلنا قاطع بهدينان حيث كان الملتقى واللقاء ؛ مع رفاق ووجـوه طيبة قريبة وبعيدة  مرت خلال محطات العمر والـذاكـرة ؛ ذلك ابو بدر الطبيب (ببيريته الجيفارية) ورفاق اخرين مثله ؛ ورفاق حزب واصحاب واصدقاء وزملاء من المدرسة والجامعة والجيش والمحافظة والعمل ، من بغـداد، البصرة ، الموصل، الناصرية ، الحلة ، الديوانية ، العمارة ، الرمادي ، بعقوبة ، دهوك ، اربيل ، السليمانية ؛ متأبطين بنادقهم ، واخرون تركوا كل غال ونفيس وتركوا كل ملذات الدنيا واستجابوا لنداء الحزب والوطن ، كيف أتوا ! ، ومن أتى بهم !. فجأة تنتصب امـامك قامة قائـد بطل اسطوري متسلح احمر الوجه طيب ((ابو جوزيف// توما توماس)) ، وبجـواره مسؤول حزبي بهيئته الوسيمة من منطقة الفرات الاوسط ؛ ابو سامي ( د. كاظم حبيب) ، ونظراتهما تتفحص القادمين ، والاداري ابو تحسين ، ورفاق سـمرٌ ورفيقات من الجنوب والوسط واخريات كأنهن راهبات للتو نزلن من تلك الاديـرة .

   لم يمض يوما او يومين بعد عناء الطريق ، الا وصوت الطيران يطرق الاسماع، يدوي في الجبل ، انزال الجندرمة الاتراك على قمم مشرفة على القاطع ، هب الفتية الانصار لصده ، قاوموه بما امتلكوا من قـوة وعزم ولغرض تغطية عملية الانسحاب ، انسحبت المجموعات المتصدية ، وبقيتُ والملازم جواد وثالثنا البغل عند خيمة الدوشكة ونحن في حيرة لانزالها ، نزل العنـاد على صاحبنا البغل في هذه اللحظات ، خاطبه جواد فحـرن ولم يرأف لحالنا وتعبنا ، فمزقنا ما احتوت الخيمة وفككنا الدوشكا على عجل وحملناها على الاكتاف نزولا ، فكان ملازم جواد في المقدمة لطوله وعرض كتفيه حاملا مخزنها وكنت خلفه حاملا (السبطانة) على الكتف واقـود صاحبنا البغل باليد الاخرى ، ونحن بهذه الحالة وكهكهات ملازم جواد الغير متناهية عالية يتردد صداها من قطع الصخر. انتهى الانزال ، والتحقوا بنهاية الفجر مع التائهين منهم ملازم سلام العبلي والطبيب باسل السماوي الذي سقط متألما من القطع الصخري اثناء المواجهة مع الاتراك. بعد استراحة توجهت المفرزة الى الفوج حاملة بالسدية ابو سرور (ابوالحشيش) وملازم باسل وكأننا قوافل السبايا وحتى البغال لا تجـد طريقها . وبعدها الى بشتأشان قاطعة انهارا ووديان ، عابـرة بالحبل نهـر الشــين (اعبـر انت وربك ياموسى) ونقطة نهاية العالم المخيف (عادل بك) عالم القجقجية ، ومنها بين منحنى الحدود وبين كمائن الجندرمة الاتراك التى لاترحم ، وقرى مهجورة محروقة وصولا الى الوادي المقدس حصاروست ، حيث مقـر الســرية وبطلها الاسطوري خضر كاكيل ، تحيط بالوادي جبال حصاروست وقممها التى لا تزال مغطاة بالثلج . اية قوة واصرار ملكتم .

  هذه ارض الوطن ، وهذه حصاروست الجميلة وقراها ومزارعها وناسها الكرماء الطيبون والذين نالوا العذابات والتهجير من قبل نظام مجرم لم يرحم ولم يرح مواطنيه. المقـر قـاعـة متروكة تجمعت فيها اعـداد غفيرة من البيشمركة ومنهم شباب بعمرالزهـور، قـدموا من داخل المحافظات ، اختلطت الوجوه ، حيث  انطبعت صور بعضهم في الذاكرة منذ سنين .

  نزلنا من قمة (شاخ رش) المشرفة على مجمع سـديكان بعد انتهاء مهمة المراقبة مع النصير الملازم فـائـز للتوجه الى مقر السرية، وفي بداية الطريق تجمعت حلقات حلقات من الانصار بملابس مهترئة وعيون محمرة كانها لم تنم او لخوضها معركة قاسية ، لم يعرف ماذا حدث وماذا يدور من حديث ، شـق طريقه الى التقرب منهم ، ترددت الاسماء بين السؤال والجواب والنفي والتأكيد .. استشهد محمد فؤاد ، اسرت احلام ، استشهد ابو تيسير ، من ابو تيسير ! ، كيف ذلك، هل اوصلوا له كاسيت تسجيل صوت ابنه الذي كان قبل اشهر طفلا يحبو!، هل هو صديقي سمير بعينه ، رفيق الغربة ، يالهول المصيبة ، كما الوعـد اردت الالتحاق به ، لا تصدق هذه الاخبار ، تجمع الانصار في السرية ، وتيقنت من تتبع الاخبار من كل مصدر، انها كارثة حلت بالحزب وانصاره في بشتأشان ، سالت دماء طاهرة لشباب اتت من كل بقعة من ارض العراق لرفع السلاح بوجه اعتى النظم قساوة وظلما وهمجية وشـراسة. كانت لي صدمة والم اثرت على مجمل الوضع النفسي لفترة طويلة . دستُ على الجرح واستقمت ، ويبقى الحب لكل شهيد في القلب .

  لملم الانصارالشباب قواهم ، ولم تهزهم المصائب ولم تثنيهم الجراح بل ازدادوا عزيمة واصرارا في المضي في النضال بتحقيق ما يصبو اليه الحزب في بناء وطن تسوده مفاهيم العـدالة الاجتماعية ، ونهض الحزب مرة اخرى بفضل تظافر جهودهم وبنكران الذات . دبت حركة الحياة من جديد في الانصار والحق يقال بانها تمثلت بجهود واصرار هذه الشبيبة والتى هي بعمر الزهـر والتى لا تعد ولا تحصى من بنات وابناء العراق، وقد حثت وحفزت من هم اكبرعمرا منهم واصبحت مثلا يحتذى بهم (مخلص ، ابو حاتم ، سركوت خضر كاكيل ، بوتان كريم احمد ، وجبارأسعد خضر، دكتورعادل ، عمـار، سعيد رش ، محمد شاه مـراد ، ابو تغريـد باسل الطائي ، حسن بلبل ، عباس ، اوميد وغيرهم الكثير ومن المجهولين ، احلام ، باسمة ، نسرين، ناديا، تانيا، فاتن ، ليلى وغيرهن الكثيرات ومن المجهولات اللاتي سطرن اعظم الاساطير) ، هذه الشبيبة التى قهرت صعوبات الجبال فمنهم أُستمد العزم والموقف والدرس والشجاعة وكلهم صور رائعة جميلة من الرفيقات والرفاق في التضحية والايثار والشجاعة والشهادة وهم سـر وديمومة وبقاء الحزب .

لقد شهدت السماء وملائكتها وبكت دماً لكم وتصلـد صخر الجبل من شجاعتكم .

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023