في يوم 2 /5 / 83 تحركت من قرية قوالي بصحبة أحد الأدلاء من القرية، وهو من ركائز حزبنا، الذي رفض مصاحبتي قبل أن أستبدل ملابسي بأخرى كردية، خشية من مفارز (أوك). وصلنا إلى قرية تقع في منتصف المسافة، فاتخذنا منها مكانا للراحة والمبيت. في الساعة الخامسة من صباح اليوم الثاني تحركنا باتجاه مقر قرداغ، الذي يفصلنا عنه جبل قرداغ العالي. في الساعة الرابعة عصراً وصلنا إلى سفح الجبل لنبدأ التسلق. أكملت صعود الجبل في ثلاث ساعات، بينما أكملها الدليل، كبير السن، في ساعتين وعشرين دقيقة. فهي المرة الأولى التي أصعد بها جبلا. عند قمة الجبل فاجأتنا مجموعة من المسلحين، بلحى كثة، يشدون على خصورهم مخازن السلاح وعلى ظهورهم علائق (حقائب من نسيج صوف تحمل على الظهر). في أول الأمر شعرت بخوف كبير من أن يكونوا من أعوان السلطة. ولكن بعد أن تبادل مرافقي السلام معهم ومصافحتهم، انزاح الخوف، خاصة بعد أن عرفت أنهم من أنصار حزبنا في موقع ربيئة على قمة الجبل لرصد أي تسلل محتمل.

ومن قمة الجبل أشار الدليل نحو مجموعة من البيوت تقع أسفل الجبل، ليقول لي أنها مقر الحزب. دام نزولنا ساعة ونصف، سقطت خلالها عدة مرات، فقد كانت منطقة صخرية وعرة وطرق ملتوية من جهة، ومن جهة اخرى لهفتي للوصول إلى المقر.. الحزب.. العطاء.. الثورة.. الحرية.. الرصاص.. دحر الأعداء.. ثأر الشهداء..الخ.

لفت انتباهي، حين وصولنا إلى مدخل المقر شعار المطرقة والمنجل، الذي ألصق في طين أحد الجدران بقطع صغيرة من الحجر ثم جرى تلوينها. ولم أنتبه إلى سقوف البنايات المنخفضة، فارتطم رأسي بأحد الأعمدة الطالعة من سقف إحدى الغرف، كما أني لم أشعر بالألم أو الورم الذي أحدثه النزف تحت الجلد، لأن فرحتي كانت قد خدرت الروح والجسد!.

وصلت باحة المقر وسلمت، فحياني جميع أنصار مقر الفوج (15). جلست على إحدى الصخور التي أعدّتْ كمقاعد، وبدأ الرفاق بالسؤال عن داخل الوطن وأخبار الناس، معاناتهم، اهتمامات الشباب، المواد الضرورية وأسعارها، النقل وأجوره، موديلات الملابس والأحذية وأنواع قص الشعر..الخ. بعد فتره نادى عليّ أحد الرفاق كبار السن لأصحبه. وأخذنا نتمشى وهو يوجه الأسئلة عن الطريق الذي سلكته والصعوبات التي واجهتها وهل معي بريد وعن الرفاق في الداخل..الخ سلمت البريد له بعد أن دام لقائي به ساعتين. ثم نادى علي أحد الرفاق لتناول العشاء.

صباح اليوم الثاني، شاهدت أن كل ثلاثة أنصار يجلسون سوية وهم يتناولون من صحن واحد شوربة العدس. أشار لي أحد الأنصار بمشاركتهم، ثم عرفني على نفسه وعلى بعض الرفاق القريبين منا؛ هذا مساعد طبي اسمه الرفيق و. وهذا الرفيق ﻭﮔران وهو الدكتور أبو عادل، فأخبرتهم باسمي الصريح، فضحكوا جميعاً وأخبروني بأن أختار اسماً آخر، اسماً حركياً. اخترت اسم (مهدي) وهو اسم لرفيق أعتز به كثيراً، والذي استشهد فيما بعد. وعندما عرفوا بأني أعمل في مجال التضميد، اصطحبوني في نفس اليوم إلى الطبابة لأباشر العمل معهم. 

الطبابة كانت عامرة بأدويتها وأدوات الجراحة والكادر الطبي. وخدماتها شملت أيضاً، الفلاحين من القرى القريبة، فكانوا يأتون بالعشرات للعلاج، حتى أنهم كانوا يجلبون معهم بيضاً ولبناً كهدايا للمرضى، لأنهم يعرفون أننا لا نأخذ منهم أجر المعاينة ولا قيمة الدواء. هي مساعدة لهؤلاء الفقراء والمحرومين من أبسط الشروط والخدمات الصحية.

مضى أسبوع على وجودي في مقر قرداغ حين صدر قرار بالانسحاب بسبب الأحداث مع (أوك) في مناطق أربيل وبشت آشان. كان أغلب الرفاق ليس مع الانسحاب بل مع المواجهة. لكن قرار مكتبيّ القاطع على خلاف من ذلك. والمكتب يتكون من الرفيقين بهاء الدين نوري وملا علي. جرى حرق الورقيات وتحميل العتاد والسلاح والمعدات الطبية لنتحرك في ليلة ماطرة باتجاه القرى المحيطة بقضاء دربندخان. عند منتصف النهار أستقر القاطع في قرية (ديوانه). لم يكن في علم غالبية الرفاق باتفاق مكتب القاطع مع (أوك) بعدم المواجهة، وأن يتم عقد الاتفاق في تلك القرية. في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الثاني شاهدنا طوابير من المسلحين تنزل من ثلاث جهات من على جبل قرداغ باتجاه القرية. صدرت توجيهات سريعة بالانتشار والتوزع على القمم المواجهة لجبل قرداغ، إلا أن مسؤول القاطع أخبرنا بعدم تنفيذ ذلك لأن القادمين جاؤا للاتفاق وليس للقتال.

استنكر الرفاق هذا الرد لكنهم التزموا بقرار البقاء الذي أصدره مكتب القاطع. أنا كنت من مجموعة من ثلاثين رفيقاً رفضت البقاء في القرية والتصافح مع مسلحي (أوك) أو الانضمام إلى حفلة الغداء التي نضمها مكتب القاطع لهم. اشترينا بسكويت وملأنا الزمزميات بالماء وصعدنا الجبل، حيث دار بيننا نقاش حاد وصريح حول هذا السلوك المشين. كيف يعقد اتفاق مع (أوك) وفي بشت آشان تقوم قواته بذبح رفاقنا، ولم نعرف أن الاتفاق وعملية الانسحاب أدت إلى فسح المجال أمام هذه القوة (تيب 15) لكي تذهب إلى بشت آشان للمشاركة قي قتل رفاقنا !. فكرنا بالذهاب لمقابلة المكتب السياسي للحزب أو إرسال رسالة تفصيلية تشرح الأمر. ثم جرى الاتفاق على الرأي الثاني، حيث كتب الرفيق (أبو لينا) الرسالة. وفي المساء نزلنا من الجبل بعد انسحاب قوات أوك. توزعت قواتنا على القرى القريبة من (ديوانه) من أجل الاستراحة والمنام.

في قرية (باوه خوشين) ألقى أحد الكوادر الحزبية محاضرة عليناً، يطالب فيها بالهدوء والالتزام بالقرارات. في المساء تسلل حوالي (15) نصير وغالبيتهم من الحزبيين ليسلموا أنفسهم إلى قوات أوك في دربندخان. في اليوم الثاني جاء قرار الانسحاب إلى منطقة شهرزور. بدأ المسير في الليل خلال طريق وعر وصعب جداً. ومن شدة التعب كان أحد الرفاق (أ.هـ) يسير وهو نائم، ولولا أن أمسك به أحد الرفاق لسقط في الوادي العميق الذي يمر في قاعه نهر بعرض أربعة أمتار.

رفضت مجموعة من سرية  ﮔرميان الانسحاب وقررت الالتزام بقرار مكتب القاطع، وكان على رأسها الشهيد (محمود حسن).

السلطة العراقية كانت تعرف أغلب ما كان يحصل في المنطقة، بحكم جواسيسها، فلم تعمل على عرقلة انسحاب قواتنا، رغم مرورنا  بالقرب من بعض الربايا والمعسكرات. لم تنطلق من تلك المواقع إطلاقة واحدة باتجاهنا. رتل طويل من الأنصار، ينقل أحمالا ثقيلة من المعدات، على سبيل المثال؛ كنت أحمل إضافة للحقيبة الطبية ومخازن العتاد والكلاشنكوف، كيس فيه (500) إطلاقة بندقية (جي سي). كانت الأرض موحلة بسبب أمطار الليلة الفائتة مما صعب عملية المسير كثيراً، إضافة إلى أننا لم نسلك الطرق الاعتيادية، بل الطرق الوعرة. جرى العبور من منطقة قريبة من أحد المعسكرات، وكانت الربايا قريبة جداً، لدرجة أن صدرت توجيهات بالحذر من السعال وصوت نزول القدم على الصخور وقرقعة السلاح أو السقوط على الأرض..الخ.

عبرت القوة بسلام لتصل إلى قرية في ده شت (سهل) شهرزور، فصدرت تعليمات بشرب الماء فقط والتحرك السريع صوب القرية التالية، وأسمها (أحمد برنو)، حيث تم فيها إنشاء مقر على وجه السرعة، في أحد البيوت المهجورة قرب جامع القرية، ثم توزعت القوة في القرى القريبة أو لاستطلاع المنطقة. كما جرى نصب ربيئتين تسيطران على المنطقة وضعت فيهما أسلحة مضادة.