في اليوم التالي ومنذ الصباح الباكر صعدنا سيارة غير التي أتت بنا وانطلقنا جهة الشرق على الطريق الدولي الذى يربط العراق بتركيا وكنا نلاحظ إشارات الطريق مكتوب عليها المسافة الى زاخو.

قبيل المساء بدأ الطريق يضيق، والسيارة صعودا ونزولا حسب التضاريس الجبلية لكردستان إلى أن بانت لنا قرية ريفية صغيرة انحرف سائق السيارة عن الطريق الاسفلتي وتوقف. عرفنا بأننا لا يمكن أن ندخل القرية الآن لأنها غير آمنة لوجود الجندرمة أو (القرقول) كما اعتادوا على تسميتهم. ولذلك سيذهب أحد مرافقينا لاستطلاع أمور القرية والتمهيد لدخولنا. تمددنا على العشب وسط أحراش وشجيرات هي جزء من بساتين القرية، وبدأ الليل يرخي ستائره  والساعات تمضي طويلة وموفدنا لم يأت بعد، والبرودة تتسلل إلى الضلوع ونحن نرتدي الملابس الصيفية.

سمعنا صوتا، وعندما اقترب اكثر، عرفنا بانه كان رفيقنا مع شخص آخر من حزب (كوك)، قدمه لنا باسم الرفيق درباز (والرفيق درباز مهما كتبت وكتب غيري عنه فلن نوفي ما قدمه) استقبلنا بالأحضان وفهمنا منه أن القرية آمنة الآن. ودعنا الرفيقين الذين صاحبانا من المحطة الأولى حتى قرية (يك ماله) أو قرية يكمالة التي اعتدنا على تسميتها فيما بعد. كان درباز مستعدا لاستقبالنا، فلحظات وجاءت صينية الطعام والخبز الساخن والشاي، لكن اهم شيء هو الابتسامة التي ما انطفأت. الرجل كان فرح بنا حتى أنه أطلعنا على مخبأه السري الذي يضع فيه الكتب الماركسية. وبعد الشاي ابلغنا الرفيق سلام بأننا سنتوجه للقاعدة الليلة وقبيل الفجر وعليه نأخذ قسط من الراحة لأن المرحلة القادمة ستكون سيرا على الاقدام. لم تغمض العين ولا النوم أتى، وتزاحمت في مخيلتي صور عديدة، فالأهل والأحبة والرفاق والفترة التي مضت والقادم المجهول من الأيام، لكنها بالنهاية انحصرت في القاعدة، مكانها، بُعدها، هل سأجد رفاق أعرفهم والعدو كم يبعد و و و ولم انتبه الاّ على صوت الرفيق أبو حازم وهو يوقظني ( يلّه أبو شروق شنو انت نايم)؟. 

كان الرفيق درباز قد جهز لنا طعاما خفيفا للطريق (خبز وجبن) ووجدنا بانتظارنا شخص آخر هو دليلنا الى القاعدة. ودعنا درباز بالأحضان متمنيا لنا النجاح في نضالنا وغادرنا المنزل بهدوء والليل لايزال يسدل أستاره القاتمة، وعلى الممرات الضيقة سرنا باتجاه الشرق وشيئا فشيئا بدأت الطرق الضيقة تتسع حتى انفرجت على فضاء واسع بانت منه النجوم، يتقدمنا الدليل ثم الرفيق سلام وأنا وخلفي أبو حازم ثم أبو وجدان الذي كان حمله ثقيلا حيث يحمل حقيبة فيها هداياه للزوجة الصامدة والاولاد المنتظرين عودة الوالد الذي سيحمل للبصرة بشرى نهاية الطاغوت. أما نحن فكانت حقائبنا لا تحتوي الاّ قمصلة وأدوات الحلاقة وكتاب وهدية الحزب (الراديو). بدأنا نصعد وبدأ العرق يتصبب في الليل البارد والخطوات تتعثر على الدروب الجبلية التي بانت خشونتها ونحن الذين لم نخبرها، بل حتى سراويل الجينز التي نرتديها أصبحت عائقا للحركة التي تتطلب اجتياز وتسلق قطوعا صخرية. وكم من مرة زلت اقدام الرفيق أبو وجدان، ولمرات طلبنا استراحة، لكن الدليل كان يؤكد باننا قريبا سنصل مكان آمن نستطيع أن نرتاح  فيه لأننا للآن داخل  الحدود التركية.

  تقترب النجوم كلما صعدنا الجبل، والعرق الدافئ في الليل البارد يتصبب وكأننا نتجه الى السماء صعودا، واخيرا الجانب الآخر من الجبل حيث النزول بحذر. بدأنا نسمع صوت خرير ماء يزداد وضوحا كلما اقتربنا من اسفل الوادي حتى لامست اقدامنا المتعبة الماء البارد فازداد نشاطنا حين علمنا بان الجانب الآخر من النهر هو العراق. هو الوطن. هو كردستان العراق وهناك مقرات الحزب والرفاق. كان نهرا صغيرا تتوسطه صخور وضعت كمعبر للرعاة. وما أن لامست أقدامنا الجانب الآخر حتى انحنى الرفيق أبو وجدان ليقبل أرض الوطن. ابتعدنا قليلا عن منطقة العبور وحيث بانت تباشير الفجر الجديد ليوم 19\9\1979 وهو يوم دخولنا الوطن. أصبحت الرؤية واضحة فأشجار البلوط والجبال الخضراء والنهر الذي عبرناه فجراً كلها تبهر النظر بروعتها. وسط فسحة بين الأشجار اختار دليلنا مكان الاستراحة.

   افترشنا  الأرض الندية وأخرجنا ما حملنا به رفيقنا درباز من زاد للطريق، وكانت الجبنة والخبز أول فطور لنا في كردستان العراق. وبعد استراحة الصباح لأكثر من نصف ساعة، علمنا من الدليل بان القاعدة تبعد من هنا مسافة ساعتين مشيا، مما رفع من معنوياتنا ونهضنا استعدادا لمواصلة المسير. الساعتان مضتا قبل زمن ودخلنا الساعة الثالثة والشمس ارتفعت في السماء ونحن نسير متعثرين، والغريب بأننا طيلة مسيرتنا لم نلتق بأي شخص وكأننا نسير في أرض مهجورة بلا بشر، سوى النهر الذي ظل يصاحبنا بنفس اتجاه سيرنا. وأخيرا بانت مداخن بيوت طينية على ضفاف هذا النهر ولاحظنا من بعيد تجمع لمقاتلين بملابس كردية ينظرون ناحيتنا، ويزداد عددهم كلما اقتربنا حتى وجدنا أنفسنا وسطهم بل وسط نظرات التفحص للقادمين بملابس لا تتلاءم وطبيعة المنطقة. ثم سمعنا صوتا مرحبا خرج من غرفة صغيرة متجها نحونا بالأحضان قائلاً (أهلاً بالرفاق) وكان ذلك الرفيق هو أبو يعقوب (دنخا البازي) ومن بعده خرج الرفاق أبو علي الشايب وأبو جهاد وأبو داود. دخلنا معهم الغرفة الصغيرة وكانت على ما يبدوا مكتبة والفرحة تغمرهم بوصول رفاق جدد. علمنا أنهم فقط من رفاق الحزب أما الباقين فمن الحزب الديمقراطي الكردستاني.

بالمحصلة، كان عددنا ثمانية رفاق، فأين المئات التي تحدث عنها الرفيق أبو نبيل!؟. وعلمنا أيضاً بأن هذه الغرفة تعود للحزب الديمقراطي. والسلاح؟ فأجاب الرفيق أبو يعقوب مازحا سلاحنا الداريوف (العصى). (دار شجرة أو عصى بالكردية وداريوف على وزن دكتريوف).

لم نسأل أية أسئلة أخرى خشية المفاجآت حتى وقت الظهيرة، حيث بعثني الرفيق أبو يقوب والرفيق أبو جهاد للذهاب الى الديمقراطي لاستلام حصتنا من الطعام. فكانت أول وجبة في القاعدة (برغل وخبز)، وتعلمت كلمة (نان) بمعنى خبز. أربعة أيام متتالية ونحن ناكل البرغل والخبز ظهرا والشاي والخبز صباحا ومساءً. حتى تلك اللحظة لم يحدد من هو المسؤول، بل في الحقيقة لم نتلقى أية توصية أو توجيه بتشخيص المسؤول. وحتى القيادة التي تعطينا التوجيهات لا نعرف أي شيء عنها ولم يقدم أي رفيق من المجموعة نفسه على انه مسؤول. لكن الرفيق أبو يعقوب لكونه من قدامى الأنصار ولمعرفته بالمنطقة كذلك الديمقراطي كان هو المبادر لتوزيع المهام على الرفاق، فقد كان هناك مبدأ الخدمة الرفاقية كل يوم على رفيقين نظافة المقر وجلب الماء واستلام حصتنا من الطعام من الديمقراطي. وعلى الرغم  من عدم وجود السلاح فقد قمنا بتناوب الحراسة، وعلى الاقل أن نكون يقظين. كل تلك المواقف أسجلها بكل حب للرفيق أبو يعقوب. في اليوم الخامس عقدنا اجتماعا اتفقنا فيه على ضرورة بناء قاعة لنا تستوعب الرفاق القادمين خاصة وان الشتاء يقترب.

ومن صباح اليوم الثاني بدأنا استطلاع الموقع الملائم للقاعدة والذي كان غير بعيد عن مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك في 25\9\1979 . ولا اريد أن أضيف شيئا اكثر مما ذكره الرفيق أبو يعقوب في الحوار الذي اجراه معه الرفيق ( أبو سعد اعلام ) تحت عنوان (بناء قاعدة ﮔﻠﻲ كوماته) فقد تكلم بكل أمانة عن ذلك. لكن يمكن اضافة ملاحظتين الأولى: أن بيشمرﮔﺔ ح د ك (الحزب الديمقراطي الكردستاني) كانوا يرتدون القبعات الشبيهة بقبعة كاسترو ومطرز عليها نجمة خماسية حمراء وأن أغلب الكتب في المكتبة التي استضافونا فيها كانت تتحدث عن حرب العصابات وعن جيفارا. كان هذا قبل مجيء مسؤول جديد لحدك اسمه (عبد الحميد) حيث رمى جميع الكتب في النهر وأمر البيشمرﮔﺔ بأن يحلقوا اللحى وينزعوا القبعات ويستبدلوها بـ (الجمداني الاحمر) وهو غطاء الرأس واللون المميز لبيشمرﮔﺔ حدك ولم ينسى بإعطائنا ملاحظة خبيثة وهي اننا شيوعيون وندرس الاقتصاد فمن الضروري الاقتصاد بالسكر والشاي!.