من منا ، نحن الأنصار الذين عشنا في قاطع بهدينان ، لا يتذكر النصير البطل ( أبو الهيجا ) ذاك الذي كانت الإبتسامة لا تفارق شفتيه ، بلهجته البدوية المتميزة والمحببة ، والذي كان يحمل أثقل سلاح في حركة الأنصار ( رشاش ١٤ ونصف ) سلاح يحتاج لبغل لحمله ! لكن النصير ( أبو الهيجا ) أصر على حمله على كتفه ، وكان فخوراً به لأنه يدرك إن فعالية هذا الرشاش في المعارك كانت لا حدود لها ، فحجم رصاصاته وتأثيرها ومداها وصوتها كانت كافية لإنزال الرعب في قلوب الأعداء ! خصوصاً من ( جحوش السلطة ) أولئك الذين كانت السلطة تخطط لزرعهم في جميع قرى منطقة ( الدوسكي ) قرب مدينة دهوك ، لقطع الطريق على الأنصار ومنعهم من العبور بين نهر الخابور والجبل الأبيض ! وحماية الشارع الدولي من عمليات الأنصار .

ولد النصير أبو الهيجا وإسمه الصريح ( خليل حسن صالح الجبوري ) في مدينة تكريت - الضلوعية عام ١٩٥٢ ، وأنهى دراسته الإبتدائية والمتوسطة والثانوية هناك ، قبل إلتحاقه بالجامعة المستنصرية ليكون طالباً في قسم الفيزياء ، وكان عضواً نشيطاً في إتحاد الطلبة ، ثم إنتسب للحزب الشيوعي العراقي ، وفي عام ١٩٧٤ إختاره الحزب من بين قلة من زملائه لمواصلة الدراسة في جامعة الصداقة في الإتحاد السوفيتي، وهناك في موسكو واصل خليل عمله الحزبي والديمقراطي بتفان ونشاط ، وقد أحبه جميع الذين عملوا وعاشوا إلى جانبه ، وبعد تجميد المنظمات الديمقراطية ، وبينها إتحاد الطلبة أواسط السبعينات، أنتخب خليل مسؤولاً للمجلس الطلابي في جامعة الصداقة ، وفي حزيران عام ١٩٨٠ أكمل خليل دراسته حاصلاً على شهادة الماجستير في الهندسة ( إستخراج المعادن ) ، ولم ينتظر ( أبو الهيجا ) إذ سارع للعودة للوطن ملتحقاً بصفوف أنصار الحزب في نفس عام تخرجه اي عام ١٩٨٠ . وهناك في قاطع بهدينان نسب ابو الهيجا للسرية الأولى ، وعرف فيها بمبدئيته وشجاعته وروحه المرحة ، فكسب حب جميع رفاقه. خصوصاً وإنه لم يرفض أي مهمة عسكرية أو حزبية أنيطت به ، كما ظل بأخلاقه  (البدوية ) كما كنا نقول له ، صريحاً وواضحاً وصادقاً ، لم يهادن أو يتلون أو يتملق لأحد ، كان يتصرف على سجيته ، في ظروف حياتية وطبيعية بالغة الصعوبة .

خريف ١٩٨١ إلتحقت به خطيبته النصيرة ( أم أسماء ) ، وكان عرساً بسيطاً ومتواضعاً ذاك الذي عاشه النصيران ( أبو الهيجا وأم أسماء ) ليلة ١١ / ٩ / ١٩٨١ ، إذ أقيمت لهما حفلة أنصارية ساهم فيها الشهيد ( أبو كريم ) ببزخه المحبب وأهدى العروسين قوطية لحم وصابونة !! أما مكتب القاطع فقد أهداهما  ( ٢٠ ديناراً ).

وبعد أيام من زفافه ترك أبو الهيجا زوجته في مقر القاطع ليعود ملتحقاً بسريته مشاركاً في معاركها ، ورغم إن ابو الهيجا لا يشكو أو يتألم ، فقد لاحظ الأطباء الأنصار أن وضعه الصحي بدأ يسوء وإعتقدوا أنه مصاب في القلب ، فقرروا إخراجه من كردستان ، وكان ذاك في ١٠ / ١٠ / ١٩٨٣ ، وفي رحلة عبور بالغة الصعوبة والخطر وصل إلى سوريا ضمن مجموعة كبيرة من الأنصار  والنصيرات .

عام ١٩٨٤ أرسل الرفيق ابو الهيجا وزوجته إلى اليمن الديمقراطية ولم يرسل ترحيله الحزبي معه، فظل شبه مقطوع عن الحزب ، وإتهمه أولئك الذين تخاذلوا ولم يساهموا في الحركة الأنصارية بأنه متمارض ومتخاذل وإنه هرب من كردستان !! ولم يعرفوا من هو ( أبو الهيجا ) وما هي مواقفه وبطولاته هناك!، وظل ابو الهيجا وزوجته في اليمن لما بعد الأحداث الدامية عام ١٩٨٦ . حيث غادر مع مئات العراقيين إلى سوريا ، وفي سوريا طالب بترحيله الحزبي فأعيد للحزب فعاد مجدداً للعمل في اليمن .

في نهاية عام ١٩٨٦ أرسل من قبل الحزب في دورة حزبية إلى بلغاريا ، وهناك بدأ وضعه الصحي يزداد سوءاً ، وإكتشف الأطباء أنه مصاب بالسرطان ، لكن ابو الهيجا أخفى الخبر عن زوجته وظل يتعايش مع مرضه ، كان يعشق الحياة ومتفائلاً ، وقد أرسل للدراسة في هنكاريا ، فأتم فيها عاماً ونصف في دراسته الجديدة قبل أن تشتد أزمته الصحية ، فقرر الذهاب للسويد من أجل الحصول على علاج مناسب !. وفي ١٢ / ١٠ / ١٩٨٩  وصل الى السويد ، وبعد أقل من شهرين إنتكس إنتكاسة شديدة لكن تفاؤله وثقته بالحياة ظلت قوية لديه ، اذ كان يؤكد إنه من الممكن أن يكتشف الأطباء علاجاً لمرضه ، وكانت سعادته تزداد كلما إلتقى رفيقاً قديماً من رفاقه ، من أولئك الذين كانوا يزورونه إذ كان ينذكرهم دائماً ويسترجع أجواء الجلسات الحميمة معهم والنكات التي سمعها منهم .!

نهاية تموز عام ١٩٩٣ لم يرحمه المرض إذ ظل ٤٥ يوماً يصارع في المستشفى قبل أن يخبره الطبيب أنه سيقطع العلاج عنه ، إذ لم يعد يجدي ، لكنه أخبر الطبيب بضرورة أن يستمر في تناول العلاج حتى أخر لحظة ، فقد كان متشبثاً بالحياة .

في يوم ٦ / ٩ / ١٩٩٣ توقف قلب الرفيق ابو الهيجا وفارق الحياة وفي عينيه دمعة ساخنة ، ولأن الغربة موحشة وقاسية فلم يودع الرفيق أبو الهيجا إلا القليل من رفاقه ! إذ دفن في صمت وبساطة ، حتى إن أحداً لم يشر وقتها لذاك الرحيل المؤلم لرفيق قدم سنوات فتوته وشبابه من أجل الحزب والشعب والقضية التي أمن بها . ولم تزل رفيقة دربه الرفيقة ( أم أسماء ) وفية لذكراه تعيش في مدينة هلسيور السويدية إلى جانب قبره متمسكة به ، تزوره وتضع الورود على قبره المنفرد الغريب .!!