ببطء وحذر شديد نتحرك.. في لحظة متوترة، مسكونة بالموت، بعد معركة (زيباروك) الملتبسة التي فقدنا فيها شهيدين، وبعد انسحاب مربك، قضينا فيه الليل والنهار فوق جبل صخري، وتحت شمس صيف حزيران اللاهبة.

كان انتظارا طويلا وشاقا. تسكب الشمس نيرانها فوق رؤوسنا، تكاد دمائنا تتبخر.

(لو جاءت طائرة هليكوبتر لحدثت مجزرة حقيقية)!.

كنا نرصد المكان من الجبل المطل على (رزكة)، فتبدو الاشياء صغيرة جدا، النهر والمزارع والتلال والبيوت والبشر والدواب. هناك شيئا ما يحدث.. سيارات مدنية تصل وتغادر مسرعة. الغموض يلف المكان، فلا نعرف طبيعة هذه السيارات المسرعة بالعودة وما هي مهمتها..

وفي الغروب حين هبط الظلام، تركنا الجبل الاجرد، نلوذ بالعتمة، (الارتباك يشل القدرة على التفكير السليم)، عبرنا الشارع الاسفلتي النازل من اعالي شقلاوة الى اربيل..

قادمون من سهل حرير.

مررنا بمحاذاة قرية (حجران) الصغيرة القريبة جدا من الشارع الذي كانت تمر به القوافل العسكرية المدججة بأعتى الاسلحة، نسير على سفوح تلالها السوداء ذات الاشجار القصيرة العارية العطشى، وبالقرب من معسكر مشترك (للجيش والجحوش)، المشهد يجعلك تشعر بالحصار والمحنة والمغامرة!.

الليل الصيفي الحار القصير، كان معتم بعض الشيء، (يسابقنا بالوصول الى نقطة اندلاع الضوء الذي سيربكنا)، ليس هناك قمر في السماء، ألا أن بضع نجوم متفرقة متناثرة تومض وتخبو بين آونة واخرى، ظلت خلفنا حتى تلاشت منطفئة .

لم نسلك الدروب السهلة التي نعرفها، بل سلكنا دروبا وعرة، بين الادغال والعشب الشوكي والاكمات والصخور المسننة الجارحة...

دروب انهكتنا واستنزفت طاقتنا. العرق ينضح، يتدفق مثل غدير.. عرق بارد ..

كانت قواتنا كثيرة العدد. وهذا يربك رشاقة حركتها وقدرتها على المناورة، وفوق كل هذا فهي هدف ،يمكن ضربه بسهوله.

تسير مثقلة بالتعب والخسارة، مثل قطار الحمولة القلق، او كما قطارات القرى النائية.

انوار المصايف السياحية المشعة فوق قمة (سري ره ش)، تكشف عتمة الافق، انوار تعانق السحب، شعاعها ذهبي باهر.. فهناك الان حياة اخرى، باذخة بالترف والشهوات، ربما حافلة بالعطر والنساء والموسيقى الصاخبة ..

نستريح قليلا ، يهب النسيم باردا، وتلوح فوانيس القرية المختبئة بين تلافيف الصخور الداكنة..

دخلنا قرية (كورة شير) المطوقة بجبلين وتقبع في واد ضيق، يمكن حصاره بيسر. لم نمكث فيها طويلا..

غادرنا تلك المصيدة، سمعنا رشقات رصاص، مصدرها السفح المقابل..

نهار آخر قضيناه بين (كورة شير وقلاسنح العليا)، في وادي سماقولي الفسيح المتشعب، حيث سفين الكئيب، سفحه مثل جدار اسود قاتم، كثيف الاشجار والصخور، كأنه اشلاء سفينة غارقة!. النهار هذا طويلا ايضا، مشحون بالقلق والترقب، المكان داكن الخضرة وفيه ظلال باردة وماء وفير.. واسراب من الطيور .. الا انه عند منتصف الظهيرة يزفر انفاسه الرطبة...

كنا نرقب مداخل المكان ومخارجه، لا وجود لقوات (اوك) التي كانت ترصد حركة القوة بدقة كما يبدوا (عرفنا هذا فيما بعد).

بوادر معركة عنيفة تلوح على ملامح الفجر!..