أودع العام السائر إلى حتفه بهذا النص...

كانت بحوزتي قنينة عرق جلبها لي أحد الفلاحين من بلدة بعشيقة. نوع فاخر ومشهور من العرق. قررت أن أنادم بها نفسي فقط، نفسي المحرومة طيلة السنين من هذه الرفاهية. كما تدبرت أمر قوطية اللحم المعلب التي ستشكل مع رأس بصل محموس بدهنها وليمة يحسدني عليها الملوك، زائداً بضع حبات من جوز الغابة التي تظلل قاعدة (مه راني). ستكون ليلة ليلاء بعيداً عن شؤون وشجون الفصيلة العسكرية التي ورطوني بقيادتها.

العزلة شبه كاملة. المكان متخف في طيات سن صخري مشرف على مساحة واسعة من فضاء تنفتح معه الرؤية على مساحات وجبال وتلال كلها تقع جنوباً. يتوفر على أخاديد وانبعاجات في سفح الجبل تعطي إحساساً بمحاريب المتصوفة والكهان. استطيع من عليائي هذا رؤية الخارطة الضوئية لمدن وبلدات تنداح إلى الجنوب، الجنوب الذي افتقدته. جزر من الضوء في بحر الليل المهيمن. أنها المرة الأولى بعد خمس سنين، أشعر بهذا الإلحاح لمنادمة نفسي. بجردة حساب خاطفة لتلك السنين المنداحة إلى الخلف، تبين لي أني كنت الشيء الوحيد الذي لم أفكر به. كما لم يخطف في رأسي أي وجه من وجوه أهلي، وجه أمي، أبي، أخوتي، أخواتي أو حتى أي وجه لصديق من أولئك الذين تركتهم هناك.

منذ أن جعلوا مني مسؤولاً عن حياة وممات أكثر من عشرين نصيراً ونصيرة وأنا احمل دماءهم على راحتي. رأسي مزدحم على الدوام بمهام وعقد ومصائب عليَّ فك طلاسمها والنفاذ منها سالماً بمن معي. سنين طويلة كدت أنسى فيها جسد المرأة، رائحتها، غنجها، عنفوان شبقها حين تكون هي الراغبة، رغم معايشتي للنساء، نساء الفلاحين الذين أزور قراهم مع فصيلتي، نساء الرفاق، النصيرات المقاتلات معنا.. أنظر للنساء كما أنظر للرجال، تجسدات خارجية ليس فيها شيء استثنائي، لا رائحة، لا توق، لا شعور بذلك الانجذاب الذكوري الغريزي لجسد الانثى. حتى الانتصاب لم اشعر به. حتى لم اتذكر المرأة الوحيدة التي أخرجتني من عذريتي وجهلي بجسد المرأة؛ (جونجي) الفتاة المجرية. بعد سنين من هروبي منها، لا أدري كيف تدبرت أمر إيصال رسالة إلى عزلتي الجبلية. كتبتها بلغتي المجرية. تعودت على لغتي الهجينة. ما زلت قادراً على استعادة أبيات تلك القصيدة التي تضمنتها الرسالة، برغم نسياني للكثير من مفردات وتراكيب لغتها. قالت أنها كتبتها لي حين كنت معها. وكانت القصيدة إبحاراً لتلك الفتاة في فراق تتوقع حدوثه وفي مستقبل بعيد تستعيدني به ثانية. كم كان تفاؤلها غريباً..! التفاؤل الذي غادرني منذ زمن بعيد، نسيته مع المنسيات الكثيرات.

لو مرة أخرى في المكان الذي كنتُ فيه معك

أعرف أنك مرة أخرى ستحضنني وتقول ما قلته في المرة الأولى

كم أنت تحبني.

لو مرة أخرى في المكان الذي كنتَ فيه معي

أعرف أنني مرة أخرى سأحضنك وأسمعك ما سمعته في المرة الأولى

كم أنا أحبك.

اظنني شوهت القصيدة بهذه الترجمة البائسة. الشعر لا يستساغ إلا بلغته. لماذا لم اتذكر صاحبة القصيدة. لماذا كنت معها مثل بحار يعرف أن سفينته ستبحر ولن تعود ثانية إلى نفس الميناء؟ كنت معها وعيني على البحر. حاولت بوسائل كثيرة ثنيّ عن العودة إلى أرض الحروب التي هربت منها. أخذتني مرة إلى المقبرة وسألتني هناك؛ ماذا يعني لك هذا القبر أو ذاك؟ ولما لم أفهم غرابة السؤال كما بدا لي، أخذت هي وردة ذابلة من أحد القبور وقدمتها لي مع نبوءة قاسية: ستموت في أرض الحروب ولن تجد من يضع حتى هذه الوردة الذابلة على قبرك. طيلة السنين لم تخطر تلك الفتاة حتى في أحلامي. المرات القليلة التي زارتني فيها أطياف نساء، كانت مع نساء لم أعرفهن. وجدتني ذات ليلة هارباً من سطح إلى آخر، في مدينة مكتظة بالسطوح، حتى اصطدمت بجسد بض لامرأة بلا ملامح، فقط جسد. نسيت هروبي وظللت احتك بذلك الجسد حتى فززت من النوم وأنا مبلل كأن أحدهم سكب على وسطي سطلاً من ذلك السائل اللزج ذو الرائحة الحريفة.

تنبهت إلى أن البعض من رفاقي ما زالت لهم طقوسهم الخاصة، البقايا الراسبة من حياة المدنية؛ فرشة أسنان، مشط صغير، كسرة مرآة، بعض العطور التي لا أعرف كيف يحصلون عليها، أكلات خاصة يتداولون تراكيبها، شكل ونوع كأسة الشاي.. إلا أنا ظللت أخوض الحياة بلا طقوس. ألبس وأنام وأكل وأشرب كيفما اتفق. لا شيء خاص، لا شيء استثنائي في حياتي. كما أعرف أن الكثير منهم لم ينقطعوا تماماً عن الخمرة. لم أذق هذا السائل الفردوسي غير مرة واحدة.  حصل في اليوم الأول لوصولي إلى أول قاعدة عسكرية قادماً من الخارج، بعد رحلة قاسية استغرقت 25 يوماً أكلت خلالها الجبال ما أكلته من أقدامنا وأرواحنا. لاحظت من الوهلة الأولى أن هناك ما يشي بالتمرد والتحلل من الالتزامات المفروضة في القاعدة من قبل الأنصار القدامى. لمحت من بينهم صديقاً قديماً من أيام التنظيمات الطلابية. تعانقنا وتساءلنا عن أخبار من تركناهم هناك من الأصدقاء، ثم، ومن غير  شروحات أسرَّ لي  ذاك الصديق:

- بعد العشا أشوفك. بس لا تأكل الشوربة.

كان العشاء شوربة عدس، بدا الطلب غير مفهوم. يعني ما علاقة أشوفك بعد العشا بأكل الشوربة. مع تكاثف خيوط الظلام الهابطة على الشق الجبلي وتلامظ أضوية الفوانيس في الكبرات الصيفية الكائنة فوق وتحت صخور السفح، توضح لي الأمر. جاء الصديق وسحبني  من يدي أنا المدهوش ما زلت بمفردات الحياة الجديدة:

- بس لا أكلت شوربة..؟

-  يعني إذا ما أكلت شراح آكل؟

- اكو عندنا كعدة. وصلت اليوم شحنة العرق.

- عرق..! معقولة..! يعني مو ممنوع؟

- إذا كان على الممنوع هو ممنوع. بس مثل ما أنت شايف جفاف الحياة يحتاج شوية ترطيب.

أنقدت له دون تعليق، غير أن صدى (جفاف الحياة) صار يتردد في داخلي صوت ناقوس منذر. لم يمض على وجودي في القاعدة غير ساعات قليلة. تسلقنا صخوراً والتففنا على قطوع صخرية حتى وصلنا إلى (كبره) مربعة الشكل مظفورة من أغصان أشجار البلوط. ومن بين ظلال عتمة الفانوس ميّزت دائرة من الوجوه لم أتبين ملامحهم. قدمني الصديق:

ـ الرفيق ملتحق جديد من الخارج.

علق أحدهم:

- يعني الرفيق بعده بدهنه..!

ضحكوا الجميع إلا أنا. لم آخذ بعد على أجواءهم. قدم لي أحدهم كأساً أخرجه من جعبته. صب آخر في الكأس عرقاً من قنينة بلا ماركة معروفة. سألني:

- تريد ماي..؟

أجته:

- لا رفيق. شكراً. تعودت اشربه ساده.

صاروا يتبادلون النظرات. بدوا لي متشابهين بشراويلهم الكوردية واليشاميغ الملفوفة بطريقة حلزونية، إضافة إلى ملامح الوجوه غير الواضحة والتي بدت كلها أما ملتحية أو بلحية عمرها أسبوعين على الأقل. تلك اللحى مع تجاعيد الوجوه المتخفية في ظلال الفانوس، أضفت على الجمع الملتم ملامح القسوة. علق صوت من الزاوية البعيدة للجمع:

- على راسي رفيق. هذوله رفاق الخارج..!

قالها بتورية. سأل الذي بقربي وكأنه يهمس باذني: "رفيق شلون انطاك گـلـبك وعفت نسوان أوروبا وراك. أحووو يا ضيم گـلـبي" ولحقها بعض إصبعه. ضحكت إنما ازددت شعوراً بغربتي عن الجلسة. تدارك الصديق الذي جلبني ورفع نخب "بصحة رفاقنا في الخارج". تذكرت أن هذه لازمة رفاق الخارج حين تجمعهم جلسات الكأس، عادة ما يبادر أحدهم ويرفع نخب "بصحة رفاقنا في الداخل". أنها تورية أخرى. تفاقم شعوري أني زائداً على الجلسة، ما  ألجأني إلى الصمت. لم أشارك في الحديث لا عن الداخل ولا عن الخارج. قيلت نكات وقفشات ومفارقات كلها خارجة عن حياتهم الجبلية. لم أدخل الجلسة إلا مع غناء طور المحمداوي الذي أجاده أحدهم بصوت شجيّ.

سأعرف بعد قليل؛ أنهم جميعاً عائدون للتو من معارك (بشت ئاشان) في سهول وجبال أربيل. كانوا فيها محاصرين بين مفارز استخبارات النظام وجيشه مع الفرسان الكورد (الجحوش) وبين قوات الـ(يكتي) تشكيلات (جلال الطالباني) الذي قلب الطاولة على الجميع وذهب إلى النظام. تركوا خلفهم عدداً غير قليل من الشهداء، بل كل واحد منهم كان مشروعاً لشهيد. الأمر الذي جعلني اندهش من قدرتهم على التجاوز والنسيان وكأن الحياة لديهم بوجوه كثيرة، كل وجه يمارس حياته باستقلالية عن الوجه الآخر.

كان ممكناً لتلك السهرة أن تمتد حتى مطلع الفجر بأثيريتها وحميمية أجوائها، لولا وصول أحدهم وكأنه انبثق من الظلام:

- السلام عليكم..!

بدا التململ والحيرة على الجالسين. أبعد أحدهم زجاجة العرق خلف ظهره. الآخرون كلُّ سحب كأسه إلى زاوية ما. ظلت في الساحة صحون السلاطة واللحم المعلب المقلي مع البصل. الوحيد الذي ظل محتفظاً بكأسه أمامه هو أنا. ولما رأيت الوافد الجديد لم يزل واقفاً لا يدري أين يجلس، تزحزحت قليلاً من مكاني لافسح له حيزاً للجلوس. لم أعرفه بعد. ومع جلوسه قدمت له كأسي:

- رفيق اشربلك مجعة. هذا خوش عرگ..

انفجر المكان بضحك صاخب هذه المرة، شاركهم به حتى الوافد الجديد. أنا لم أفهم بعد لِمَ الضحك ومن يكون هذا الوافد الجديد. شكرني هو بأدب "شكراً رفيق". وبعد أن تنحنح ونظف حنجرته، بدأ بحديث حاول جاهداً أن لا يكون جارحاً ومختصره: أنه يقدِّر ظروفهم وفقدانهم لكثير من رفاقهم الذين استشهدوا في المعارك وحاجتهم لشيء من الاسترخاء أو جر الأنفاس، لكن يا رفاق أن ما تفعلونه ممنوع والاستمرار عليه يشكل خطورة على حياتنا جميعاً.

عرفت لاحقاً أن الوافد هو المسؤول السياسي للقاعدة. وها أنا في عزلتي أرى شبح أحدهم يصعد السفح كما لو أنه مسحوباً من أنفه ويصيح:

ـ ألا يا خبيث وبخيل وأناني.. شكد ما تستحي..!

ـ تفضل خربت الكعدة.