كنا خمسة انصار في مفرزة لجلب الارزاق، خليل الايزيدي وثلاثة اخرين من الرفاق الاكراد وانا. ما ان توغلنا في الاراضي الحدودية بين العراق وتركيا، وكانت المنطقة تشع بياضا في ليلة مقمرة حتى تلألأت السماء بكل انواع الرصاص، وبشكل خاص الرصاص الخطاف. اول ما خطر في بالي في تلك اللحظة هي صديقتي الفنلندية، سوف افقدها، ولن تتمكن من معرفة ما حصل لي ابدا. ثلاثة من انصار المفرزة استطاعوا الانسحاب بنجاج والعودة الى المقر.  بقينا انا وخليل الايزيدي، لا مجال للتراجع والانسحاب، لان دائرة الرمي تحوطنا من كل جانب، فانبطحنا دون حركة فوق الثلج في انتظارهم. اعطينا انطباع للجنود باننا جرحى.

بدأ خليل بالزحف، وبدأت زخات الرصاص بالانهمار مرة ثانية، فصرخ خليل طالبا مني ان اتبعه، ثم انتهينا الى وادي صغير لا يتجاوز عرضه المتران وتجري في وسطه ساقية ماء. ركضنا بسرعة والرمي مازال مستمرا باتجاهنا. في تلك اللحظات فقدت حذائي، لكني لم اتوقف حتى اصبحنا في وسط المعسكر، لكنّ ذكاء الرفيق خليل وشجاعته هو الذي انقذنا من الموت، حيث اختار العبور من ممر لا يمكنهم رؤيتنا فيه، وكان علينا ان نخوض بالثلح الذي يصل الى منتصف الجسم ونفتح لنا طريقا فيه، وكانت هذه هي المهمة الاصعب.

راينا من بعيد (شكفته) تقع على مسافة قريبة، فاخبرت خليل بقصة الحذاء وعدم قدرتي على مواصلة المشي. كان الوقت لا يزال فجرا ومن الضروري الوصول قبل ان تكتشف الجندرمة التركية امرنا، فاضطر خليل ان يحملني على ظهره مسافة لا تقل عن 100 متر. جلسنا في (الشكفته)، لكننا لانستطيع ان نشعل النار خوفا من اكتشافنا. بعد حوالي نصف ساعة جاءنا صبي صغير، وهو راع غنم، واخبرنا ان الجندرمة يبحثون عنا، وهم يعتقدون انهم اصابوا احدنا، وقال انه يعرف طريقا الى القرية التي لا تبعد كثيرا عن هذا المكان، ثم اشعل لنا نارا وذهب واحضر لي حذاءا. في داخل (الشكفته)، ارتكبت خطأ فادحا وهو اني بدأت بتدفئة قدمي على النار المشتعلة، فحرقت الجلد الباطني للقدم واتلفت انسجة احد الاصابع الذي فقدت الاحساس به.

حينما وصلنا الى القرية ليلا كان اول ما فعلوه ان دفئوا قدمي بالتبن، وتلك هي الطريقة الصحيحة، حيث تعرض اجزاء الجسم المتجمدة للنار مباشرة يزيد الامر سوءا. قضينا الليلة في تلك القرية، كنت اسميها قرية درباس، ودرباس هذا هو احد التجار الذي كان يبيعنا الطحين والتموين باسعار غالية كما اخبرنى بعدئذ طيب الذكر المرحوم (أبو جميل).

في صباح اليوم التالي، كان هناك ثلاث سيارات جيب عسكرية تبحث عنا. نقلونا من بيت درباس الى بيت مجاور، وكان اهل القرية حريصون جدا ان لا نقع بايدي الجندرمة. بعد ذلك، جلب لنا درباس بغل ودليل من اهل القرية لنقلي الى المقر. كان موقف الرفاق الانصار رائعا بكل معنى الكلمة، واعتقد انني لا استطيع وصف تلك المشاعر النبيلة التي احاطوني بها والتي ساعدتني في اجتياز تلك الازمة الصعبة. الى جانبي في المقر (غرفة المشفى) كان يرقد رفيق اسمه ابو الوجد، وجه ناحل، اسمر، شاب صغير السن في عشرينياته، عرفت في ما بعد انه شاعر، وكنت قد سمعت انه يعاني من التدرن. هذا الرفيق الانيس لم اقابله بعدها، بودي ان ابعث بقبلاتي له لانه كان نعم الجار في تلك القاعة.

هناك الكثير من الوجوه الطيبة التي تفانت في خدمتي: ابو هند الصبي، المرحوم ابو شروق امر الفصيل، الشهيد ابولهيب، مستشار الفصيل السياسي الشهيد ابو سلام نفطة، وكثيرون غيرهم كانوا يتبارون في رعايتي. بعد العملية التي اجريت لقدمي بثلاثة ايام، حيث قام الشهيد د. عادل بقطع اصابع قدمي من دون بنج، اخبرنى الشهيد الطبيب بان العملية كانت ناجحة لانه ضغط على الجرج فجرى دما احمرا نقيا. طبعا لا زلت اعاني من حرق الجلد لانه غير قابل للبناء ثانية. بعدها باشهر ذهبنا (الشهيد دكتور عادل وابو يوسف النجفي ابو التاير وانا) في مفرزة الى تركيا، ولكن من جهة الغرب، وكانت واحدة من اجمل الايام لما تخللها من النكات والسوالف. ثلاثتنا كنا عربا وانا لا احسن اللغة الكردية عدا بعض المصطلحات الجاهزة، ولكن الدكتور غسان عاكف حمودي كان ينقذ المواقف الصعبة بعدته الطبية، ولان تلك القرى كانت بعيدة عن اعين الجندرمة كانت ضحكات الشهيد ابا يوسف تجلجل الوادي. سقى الله تلك الايام .