لم نعد نسمع أصوات الضجيج والصرخات وضحكات الرفاق المنتشرين في أرجاء الوادي، خرير ماء العين يُسمعُ من فوق سطْح القاعاتِ المبنية على السفح، العديد من الرفاق غادروا المكان، والمتبقي منهم منهمكين في مهماتهم.
مجموعة اللاسلكي (الرفيقتين أنوار وآفاق والرفيق ابو عصام)، منشغلون بتأمين الاتصالات مع (المكتب العسكري المركزي) ومحلية نينوى ومقر گلي شيفي لمعرفة اخر تطورات الأوضاع لديهم، وكذلك الإسراع بتفكيك جهاز المخابرة، ومحاولة إيجاد أماكن بديلة لتأمين الاِتصالات. ان تَلَقي البرقيات، وحل شفرتها، وتشفير برقيات اخرى بتعليمات ومعلومات جديدة عن المواقف الطارئة في عموم المنطقة، يتطلب جهداً كبيراً، ومواصفاتٍ خاصة يتسم بها المكلفين بهذه المهمة، وأهمها الكتمان والمحافظة على سرية المعلومة. انّ تحلي رفيقات ورفاق مجموعة اللاسلكي بهذه الصفات، وضعهم في حرجٍ مع بقية الرفاق، وذلك لامتناعهم عن اعطاء اجابات على اسئلة تتعلق بمعلوماتٍ عن طبيعة عملهم.
نقاط حراستنا في الوادي شُددتْ لمراقبة كل التحركات، ابتداء من الربيئة القابعة فوق قمة جبل متين (نقطة الدوشكا)، مرورا بالربيئة المرابطة على المرتفع المشرف على المقر والواقع في بداية طريق الصعود نحو جبل متين، الى نقطة الحراسة في بداية گلي هسْپَه على طريق قرية درگلي. لمهمات الحراسة المشددة هذه دورا كبيرا في إحباط المحاولات التي قامت بها السلطة حينها، حيث عملت السلطة على استكمال وتدقيق معلوماتها الاستخباراتية عن مواقعنا واحداثيات القصف، ومحاولة معرفة التسليح ونوعيته، واعداد الانصار والبيشمركة المتواجدين في هذه المقرات.
رصدت نقاط مراقبتنا تحركات الجيش والجحوش في الربايا والمعسكرات والطرق المحيطة بالمقر. المعلومات الواردة الى قيادة المقر تدقق من عدة مصادر: نقاط المراقبة، اخبار من القرويين والمفارز المتحركة والمعلومات المرسلة لاسلكياً. كل الدلائل تشير وتؤكد ان عملية كبيرة تخطط لها السلطة، وان هذه الاستعدادات لاتنحصر فقط في تبديل طواقم الربايا بين الجحوش والجيش كما كان يتصور بعض المعنيين.
مهمات اخرى يتوجب علينا القيام بها، الا وهي إتلاف الوثائق والاوراق المتعلقة بمجمل العمل التنظيمي والعسكري، وإخفاء الأسلحةِ الثقيلة والاعتدة، وهذا العمل استوجب البحث عن أماكن صالحة لذلك، وتطلب أيضاً جهدا جسديا كبيراً للحفر والاِخفاء، خصوصا وان العدد المتبقي من الانصار محدودا ولايتجاوز 25 رفيقا. توزعت جهودنا بين هذه المهمات، وكل رفيق منا يجتر قلقه وخوفه الذي نخفيه عن بَعضُنَا، ونحاول قدر مانستطيع ان نَشّد من عزيمةِ بَعضُنَا، ونُمْني أنفسنا بان هذا الوضع طارئ وسيمر بسلام، وأننا مررنا بهكذا اوضاع وتم تجاوزها، ولكن هذه المرة الحالة مختلفة.
خيم الصمت على ارجاء الوادي بعد ضجيج الأيام السابقة، لاصوت يُسمع عند وِجْنَة العين، ولا نقاشات (النِگِرَه) والتحليلات لآخر مستجدات الوضع السياسي والعسكري، والتكهنات بالمصير ألذي ستؤول اليه الحركة. الهدوء سيد الموقف، ولا أحد يدري كيف ستسير الأمور في الساعات القادمة.
لم يبقَ من مجموعتنا (مفرزة الطريق) في گلي هسْپَه حينها سوى الرفيق أبو هدى وانا. بقية رفاق المفرزة بتشكيلتها الجديدة تَرَكُوا المقر وانتقلوا الى الجانب الاخر من شارع كأني ماسي- بيگوفا ومعهم المجموعة الاخيرة التي وصلت مع الدليلين رمضان وسليمان (الرفاق ابو فهد، ابو عليوي، علاء الصغير، سلام ألماني) قبل ايّام من هذه الأحداث. كانت خُططنا حينها إرسال مفرزة باتجاه سوريا مع الدليلين، ولكن الليالي القمرية كانت سببا في ارجاء إرسال المفرزة، بالاضافة الى تسارع الأحداث من تحرك الجيش والجحوش في مناطق الجبل الأبيض واحتلاله للربايا وممرات حركة المفارز في المنطقة، ودخول القوات الى القرى وتمشيطها قرية بعد اخرى، كل ذلك حال دون تحرك هذه المفرزة صوب الحدود العراقية- السورية. وارتباطا بعملية اخلاء المقرات، انتقل هؤلاء الرفاق أيضا الى الجانب الآخر من الشارع، بأمل ان الأوضاع الطارئة ستهدأ، حينها يمكن لهذه المفرزة التحرك ومعها عدد من الرفاق والبريد الحزبي.
في ليلة 26/ 8/ 1988، عمل جميع من تبقى من الرفاق كخلية نحلٍ منتشرين في أماكن مختلفة من هذا الوادي، فهذه الليلة هي ليلتنا الاخيرة، والقرار المتخذ من قيادة المحلية (قيادة الفوج الثالث) وقيادة محلية حدك، هو اخلاء المقرات والمغادرة بشكل مشترك، ولهذا الغرض كلّف رفيق من قيادة محلية دهوك بمهمة التنسيق مع مقرات الاحزاب الكوردية الموجودة (مقر محلية دهوك لحدك في گلي بيشيلي)، والعمل على التحرك المشترك خلال الانسحاب من المقرات، وان يتم ذلك بطريقة منظمة، والتهيئة للمفأجآت التي قد تعيق الانسحاب وربما تتسبب بالخسائر. تحركت مع الرفيق المكلف بالتنسيق مع (حدك) مجموعة من الرفاق، (ومعهم الرفيق ابو هدى) لغرض تحديد ساعة الحركة وكيفية التحرك ومكان اللقاء وطريق العبور.
لم يكن لي وللرفيق ابو هدى ارتباطاً تنظيمياً مع الرفاق في محلية دهوك، وأثناء تواجدنا هناك كنّا نكلف بالواجبات اليومية من حراسات ومهمات ضمن إطار عمل المقر. فيما كان الرفيق ابو هدى مع مجموعة التنسيق. قمتُ أنا بإتلاف الأوراق وقوائم الصرف الخاصة بمفرزة الطريق، وحاولت كتابة تلك القوائم، لاسيما المهمة منها كرموز وأرقام تسهل عليّ معرفة تفاصيل هذه القوائم حال تَطْلَبَ الامر ذلك. حاولت جمع الأغراض الاساسية التي سنكون بحاجة اليها في رحلتنا المجهولة هذه، آخذاً بعين الاعتبار ثقل حمولتنا أنا ورفيقة دربي (آفاق) وألبومي صورٍ، احداها للرفيقة سمر (وعدتها بإيصاله الى سوريا)، والثاني يحتوي على صورنا الشخصية أنا وآفاق (خصوصا صور حفلة زواجنا). مع ألبومين وضعت جوازات سفرنا التي كانت الوثائق الوحيدة التي نمتلكها وتثبت شخصيتينا. قمت بإخفاء المتبقي من الملابس والأغراض الآخرى بأمل ان نعود للمكان، لتصورٍ كنّا نمني النفس به، هو ان ألسلطة ستنسحب من مقرنا بعد دخوله، كما حدث في مقر الفوج الاول في گلي مرانه شتاء عام 1987.
بعد ان أتممت مهمتي بوضع مانحتاجه في الحقيبة الظهرية (العليجة)، خرجت من (الكپره) بأمل ان أخلو لبعض الوقت مع نفسي، اتمشى فوق سطح غرفة سكن ر. ابو هدى، متأملا ارجاء الوادي، ومراقباً حركة الرفاق وهم منشغلين بإتمام أعمالهم، وهنا تداعى الى سمعي صوت الرفيق ابو أنيس منادياً: (رفيق ابو وسن: نحتاج مساعدة بالحراسة اذا تكدر)، اي رفيق هسة جايّ، فتحركت نحو نقطة الحراسة الواقعة بالقرب من مطبخ المقر لأقضي الوقت المتبقي حتى ساعة الانسحاب.
جميع من بقي في الوادي لهذه الليلة على استعداد للحركة بعد ان اتموا عملهم، وبانتظار عودة مجموعة التنسيق مع (حدك) لمعرفة موعد الحركة ومكان اللقاء، وايضا انتظار مجموعة الدوشكا المرابطة على قمة جبل متين، حيث عليها ان تفكك الدوشكا وتحملها على ظهر بغل لنقلها معنا نحو المقر البديل. أصوات قصف مدفعي بعيد تتناهى الى أسماعنا، وتكهنات بان السلطة تقصف مواقع مقراتنا في گلي زيوة ١ بالراجمات، (عرفنا فيما بعد بانه فعلا قصف بالسلاح الكيمياوي). مجموعة اللاسلكي لم توفق بالاتصال بالرفاق في (گلي شيفي) والرفاق في الفوج الاول (محلية نينوى) رغم المحاولات المتكررة. لم نجد أحدا من القياديين لمحلية دهوك في (گلي بيشيلي)، يبدو انهم انسحبوا، ولَم نجد هناك سوى عدد من البيشمركة، كانوا هم أيضا في طريقهم لمغادرة المكان.
قال احد رفاق مجموعة التنسيق مع حدك: كيف ذلك، لقد وعدوا بان لاينسحبوا قبل إبلاغنا؟.
اجاب مسؤول الموقع: كيف لنا ان نثق بهؤلاء، فهم دائما هكذا، اول من يغادر المعارك .
بدأ لغط بين الرفاق بعد سماعهم ذلك، وتكررت مطالبات بالتحرك بسرعة، خصوصا وأن الساعة قاربت منتصف الليل، لكن رفاق الدوشكا لم يصلوا لحد الان، ولايمكننا تركهم، ذهب الرفيق عايد لإخبارهم بالانسحاب. اكد الرفيق م. هشام قائلا: انهم على وشك الوصول، لان اتفاقنا معهم ان يكونوا هنا قبل هذا الوقت، ولا ادري ما الذي أخرهم. اتفقنا ان ينتظر وصول مجموعة الدوشكا رفيقان، اما الاخرون فيتحركون نحو الطريق بين (قرية درگلي وقرية موِسكا)، وهناك ننتظر حتى يلتحق بنا رفاق الدوشكة، ثم نحاول ايجاد منفذ للعبور الى الجانب الاخر.
القمر في ليلتنا هذه بدراً بكامل عنفوانه الضوئي، ينير أرجاء (گلي هْسبِة)، نجومٌ ساطعةٌ تتلألأ حوله وحول جبل متين كعُقدٍ من اللؤلؤ يُزيّنْ عُنْقَ ذكرياتنا، أحلامُنا وآمالُنا التي ستُترك هنا. خَريّرُ مياه وجْنةَ العين تعزف سمفونية وداعٍ حزينة، ونحن نجر الخطوات وعيوننا تأبى ان تلقي نظرتها الاخيرة، ها قد آن آوان الوداع. تحركت مفرزتنا صوب قرية (درگلي)، ولَم تكن المسافة بطويلةٍ، حتى تناهت الى أسماعنا أصوات قصف مدفعي بعيد، ياتي من اتجاهات عديدة. في البدء كان القصف متقطعا، ولكن مع مرور الوقت اشتد وبدأت أعمدة دخان الحرائق تحصد البيوت والاشجار والمحاصيل الزراعية وبساتين الفاكهة للقرى المحيطة بناحية (كأني ماسي) والمناطق المجاورة. توقعاتنا ان نلتقي ببيشمركة (حدك) بالقرب من قرية (درگلي) أو قرية (موِسْكا)، ولكن هذا الاحتمال تبدد تماما حين عِلْمنا انهم فعلا غادروا مقرهم في وقتٍ مبكّرٍ من مساءِ ذلك الْيَوْمَ.