توجهنا الى فصيل الادارة الذي يبعد مسافة قريبة نزولا، كان الباب قطعة قماش طويلة. عند دخولنا، وجدنا عدد من الرفاق متجمعين حول المدفأة، والأخرين نياما. عرفني الرفيق إليهم قائلا: هذا الرفيق سيكون معكم في الفصيل. القاعة كبيرة وتتسع لأكثر من خمسة عشر نصيرا تقريبا، وفي وسطها عمود عُلق في اعلاه فانوس. دعاني بتلقائية الرفيق ابو إلهام الذي كاد يحتضن الصوبة، الى الجلوس. الجو خارج القاعة باردا. اقتربت من (الصوبة)، ومن خلال الحديث، تعرفت على الواجبات التي سوف اقوم بها: (الحراسة، تقطيع الحطب، جلب المؤن وغير ذلك)، ولما تحدثنا عن اهمية ان تبقى (الصوبة) مشتعلة، قال الرفيق ابو إلهام: لا يحتاج أحد منكم ان يملأ (الصوبة) بالحطب، سوف اقوم بذلك لأني لا أستطيع النوم في الليل، واضاف موجها كلامه لي، رفيق جيد ان تعرف انّ عائلتين في زاوية القاعة ينامان هنا، واشار بيده الى المكان الذي كان مرتفعا قليلا عن ارضية القاعة.

ابو إلهام شخصية منفتحة وتلقائية، تحدث قليلا عن وجوده في الخارج، وكان يرغب في الاسترسال، لكن احد الرفاق نادى عليه: رفيق ابو إلهام اريد انام، فردّ ابو إلهام: عفوا رفيق.... وأصبح الصمت مطبقا تماما. تأملت قليلا، واستنتجت ان ظروف وصولنا الى هنا ليست متشابهة كما ظننت، لكننا في هذا الوادي (كلي كوماته)، نتشارك الاحلام والامال في ان تشرق الشمس على بلادنا التي تركنا فيها، الحياة المدنية ودفء العائلة والأحبة والاصدقاء. جسدي، ونصف روحي في كوماته، ونصفها الاخر لا يزال في بغداد: (صباح الخير زاهدة هذا الكتاب الذي  طلبته مني، كانت داخل الكتاب رسالة صغيرة، انا انتظرك في منطقة الباص البعيدة عن الدائرة بعد الدوام. بعد دقائق جاءت مبتسمة، القلب يخفق كغير عادته، وقفنا برهة من الزمن. من اين ابدا الحديث، بينت لها اعجابي واحترامي الكبير لكي ابعد الخجل الذي بيننا، بادرت بالسؤال: اشعر إنك حزينة دائما؟، قالت اخي الذي أكبر مني أعدم قبل فترة. لمت نفسي على السؤال، ولكي اغير الموقف بادرت بسؤال اخر يمكن يدخل الفرح الى قلبها: ما رأيك ان نكون عائلة أنى وياك؟، اجابت: الان الوضع صعب، ممكن بعد فترة. سألنا  بعضنا  اين وصلنا!، مشينا ثلاث مناطق لم نشعر بالتعب، ضحكنا قليلا، بداية الحب تنسينا التعب، لابد ان نرجع بالباص عسى ان نلتقي غدا). رفيق ابو زاهدة: جاء دورك بالحراسة. عدلت (البشتين)، وتحزمت (بالقابوريات)، ثم استلمت البندقية وكلمة السر المتفق عليها مع الاخرين مع حفظ كلمة (تو كي) التي تعني من انت؟، وهذه ثاني كلمة تعلمتها باللغة الكردية بعد كلمة (جاواني) التي تعني كيف حالك، وخرجت من القاعة.

ليس غريبا علي ان احمل بندقية، لأني خدمت سنة ونصف في الجيش. الجميع نيام عدا الحرس والرفيق ابو إلهام الذي لا يزال  يحتضن (الصوبة). وقفت بالقرب من الطريق الذي يأتي منه المهربون. الوقوف لساعتين تشعرك بمسؤولية كبيرة بالرغم من شعوري بان المكان معزولا عن العالم.

نهضت صباحا مع الرفاق الاخرين عدا الرفيق ابو إلهام. الجو مشمس والفطور شوربة عدس. بعد الفطور، بدأ بعض الرفاق بالأعمال اليومية التي اعتادوا عليها من طبخ وجمع حطب وحراسة. لم يكن معتادا ان يسأل الرفاق بعضهم الاخر من اي مكان اتيت او من اي محافظة، كنا ننادي بعضنا بعضا بالاسماء الحركية. جاء أحد الرفاق من فصيل الحراسة وقال: رفاق انا ذاهب لصيد السمك في الروبار (النهر) الذي يفصل الحدود بين العراق وتركيا، ويقع على مسافة عشرة دقائق نزولا. اثنان من الرفاق قالا: نذهب الى قمة الجبل لنتشمس، لابد ان الكثير من الرفاق شعروا بان الشمس لن تأتيهم الى هنا، ولابد ان ننتقل الى مكان اخر تكون الشمس فيه قريبة الينا. كنت اشعر بالألفة مع الاخرين. جاء مسؤول فصيل الادارة وقال لي: انت ورفيق اخر تذهبا لجلب الارزاق من مكان يبعد ساعة ونصف. تساءلت مع نفسي كيف اجلب هذه الارزاق!؟. قدم لنا (عليجتين وهي عبارة عن كيس يحمل على الظهر)، سوف تحملان عشرين كيلوغرام. لم اعلق بشيء. ذهبنا ورجعنا بالأرزاق (رز مع بعض المعلبات)، مرورا بفصيل الحراسة وغرفة الرفيق الذي التقى بي لطلب المعلومات، (احد الشخصين الذي كان ينظر لي بسخرية قال هسه نوديك يم الحجي يشوفك وين السراديب نادى احد الاشخاص وديه يم الحجي في داخلي رعب  سحبني من يدي نزل راسك ارفع رجلك يوجد درج ونبرة حادة اجلس هنا امام الحجي رجل متوسط القامة كرشه يكاد يلامس المنضدة التي امامه وبيده سبحه يتكلم بحده سوف اريك جميع الاموات التي في السراديب قلت مع نفسي لابد اني في سراديب النجف التي لم اراها ابدا).

وصلنا فصيل الادارة، وبعد ان مضت فترة شهر الى شهرين، انتقلنا الى مقر اخر فيه الشمس تشرق علينا أكثر. كانت مهمتي في الانتقال الى المقر الجديد (هرور) هي مساعدة الرفاق، ومرافقة البغال المحملة بالعتاد والمواد الغذائية. المقر يقع في وادي مفتوح، يجري في وسطه نهر صغير (روبار)، والشمس الساطعة تعطيه منظرا جميلا. بلمحة سريعة شاهدت عدة غرف واماكن سقوفها من اغصان الشجر تسمى (كبرات)، لم اعرف هذه المنطقة من قبل. في اليوم التالي كلفني أحد الرفاق، ان اذهب الى منطقة (كيشان)، وخلال يومين وصلت الى هناك مع بعض الرفاق. المقر عبارة عن قاعة متوسطة الحجم تستوعب من عشرة الى خمسة عشر شخصا وبجانبها مطبخ مسقوف ومفتوح الجوانب. هذا المقر مهم حسب ما سمعت من الرفاق لأنه يحصل على مبالغ مادية من خلال فرض ضريبة على المهربين الذين يدخلون الاراضي العراقية من جهة تركيا او العكس (نقطة كمرك). خلال وجودي لفترة أكثر من شهرين والقيام بالواجبات اليومية، لم التقِ بأحد من المهربين (القجقجية) لاستحصال ضريبة المواد التي يهربونها.

في هذا المقر التقيت بأمر الفصيل كفاح، نحيف البنية حنطي اللون مع لحية كثة، قليلا ما يلف (الجمداني) على رأسه. شعرت ان بيننا تجاذب روحي، ربما لأننا اتينا من بيئة ومنطقة فقيرة يمتلك طاقة وسرعة البديهية وجرأة، كما هو دليل جيد بالرغم من انه ليس من ابناء المنطقة، حيث اسير معه وانا مطمئن. جاء مرة وقال لي رفيق لدينا مهمة خاصة وسرية، يجب ان نوصل شخص الى مقر فوج الثالث. في الساعة السابعة مساء تقريبا، قال لي: استعد لنذهب الان!، لم اقل شيئا، ولم يقل لي من هذا الشخص الذي سوف نوصله. كانت رحلة متعبة وخطيرة وفي عتمة الليل، حيث سرنا بطريق غير معروف ولم يسلكه القرويون. كنا نتلمس الصخور ونتشبث بها كما يشبث (الماعز) بها. وفي ظلمة الليل المسكون بالخوف. (تلمست جدار السرداب الرطب.. شعرت بيد تسحبني بقوة حجي هذا ابن ....... صار مرتين انوديه للمستشفى أيسوي عملية لفتح (دنابل ) كبيرة ببطنه وبطن الخلفة.. حجي هذا  ابن..!، اخاف رطوبة السراديب، مأثرة علية خلينة انفضه وياه! قال الحجي ولك: بعد ما اريد اشوف جهرتك هنا. تعال  اخذه من اهنا طلعه بره من سراديب النجف).

واصلنا السير لأكثر من ساعتين ونصف، شعرنا بالتعب والجوع والعطش والتيه في هذه الجبال الوعرة، لكن كانت لدي ثقة كبيرة بصديقي كفاح، سوف يوصلنا الى هناك، وإذا بمفاجأة لم نتوقعها، التقينا براعي غنم، استطعنا الحصول منه على حليب وبعض الخبز. كان كفاح هو الدليل والشخص الذي سوف نوصله في الوسط وانا خلفهما. واصلنا الحركة بحذر شديد حتى وصلنا صباحا الى مقر (كلي هسبة)، وهو عبارة عن وادي عميق في محيط جبل متين وقريب للعديد من القرى، ويكتظ بالرفاق. هنا عرفت من حديث الرفاق ان الشخص الذي كان معنا هو مسؤول في حزب (بكه كه كه). في اليوم الثالث لوجودي، طُلب مني ان اقوم بجولة مع الرفاق الاخرين في القرى القريبة، وهذه هي المرة الاولى التي اخوض فيها تجربة اللقاء بالناس عن قرب، بالرغم من اني لا اجيد اللغة الكردية. كنا  نسير كل اثنين سوية متباعدين عن بعضنا بعضا لمسافة عشرة الى خمسة عشر مترا. وصلنا الى قرية قريبة الى شارع ترابي ودخلناها بحذر، مسؤول المفرزة يلتقي مع المختار ليتم توزيعنا الى البيوت كل اثنين سوية مع مراعاة الرفيق الذي لا يجيد اللغة الكردية.

ذهب الجميع وبقيت وحدي، فطلب مسؤول المفرزة مني ان اذهب الى البيت المجاور الى البيت الذي استضاف رفيقين، لكي يتسنى لي مناداتهما اذا احتجت لذلك. لم أعلق بشيء، ذهبت الى البيت الذي كان من غرفة واحدة مع (كبرة) فوق السطح غير مرتبة بشكل جيد. وجدت امرأة كبيرة تتجاوز الخمسين ترتدي ملابس زاهية متعددة الالوان قالت بالكردي (بي فرمو) تفضل.