بعد انتظار ثلاثة أيام على الحدود التركية، ومع حلول الليل، سمحت لنا الجندرمة بعبور الحدود إلى الأراضي التركية. فرحت العوائل الكردية فرحا حقيقيا، وكأن باب الجنة قد فتح لها. تدفق زخم بشري يمتد طويلا!. الاف النساء والاطفال والرجال، وتحت حراسة مشددة من قبل الجندرمة، يتدافعون من ليل ذلك اليوم حتى صباح اليوم التالي.

الناس يسيرون الى الامام من دون تحديد هدف معين. بعد ذلك، جمعونا ووضعونا في معسكرات لفترة أكثر من شهر. هناك، التقيت بعدد من النصيرات اللواتي دخلن الحدود قبلي. كان التعب والنعاس يخيمان على وجوه الجميع، لذلك لم يكن الأمر مستغربا أن يغفوا العديد منا لفترة من الزمن رغم شدة البرد، حيث واجهنا ليالٍ باردة جدا، ولم تحمينا الملابس الكردية الصيفية التي نرتديها، فكنا ننتظر النهار بفارغ الصبر.

بدأت الإمراض تتفشى بيننا، (الإسهال، الرشح، التهاب القصبات، الأمراض الجلدية، وغير ذلك مما يسببه البرد القارس)، بالاضافة الى الجوع والعطش والاعياء الذي اصاب الجميع. اما الاطفال وكبار السن، فشبح الموت، يحوم حولهم.

تركنا سلاحنا، واصبحنا لاجئيين، يلفنا الحزن والكآبة والخذلان، بعد ان كنا نصيرات مقاتلات اثبتن جدارة وحضور في حركة الانصار الشيوعيين.

دخلنا في معسكر (كَفر)، ذلك المخيم التعيس، الذي صنعه الجيش التركي للأكراد الهاربين من جحيم الهجوم الصدامي الوحشي، الذي اطلقوا عليه اسم (الأنفال) سيء الصيت. إن مجرد ذكر اسمه، يثير القشعريرة في جسدي، وتتجسد أمامي، كل تلك الالام والعذابات النفسية الفضيعة. نتزاحم راكضين وراء لوريات الجندرمة التي ترمي علينا الخبز مرتين في اليوم. اما الحمامات، فهيأوا حماما مركزيا يقف الناس امامه في طوابير طويلة ولعدة ساعات، لعلهم يحضون بحمام. الذهاب الى دورة المياه، اصبح محنة حقيقية لنا، فالانتظار طويل، والمنظر مقزز.

صارت الحياة في مخيم (كَفر) لا تطاق. استيقظنا صباح أحد الأيام، لنجد طابورا من لوريات (شاحنات مكشوفة)، وعرفنا أن تلك اللوريات ستنقل اللاجئين إلى إيران. زحفت إليها مئات العوائل بحركة لا شعورية ليحشروا أنفسهم فيها جالسين القرفصاء، ومنهم من اخذ حاجياته كالبطانيات التي وزعت علينا بالمخيم. صعدنا أيضاً في تلك الناقلات، المكان ضيق، ولا يتسع ان تحرك اقدامك. الرفاق الذين كانوا في الناقلة: (أم نصار وأبو نصار، أم علي وأبو علي، أبو هندرين وأم هندرين، هدى وأبو سيف، سمر وأبو نسرين، تانيا ورياض، ام طريق ابو طريق، أضافة إلى انصاراخرين.

في الساعة التاسعة صباحا، انطلق رتل الشاحنات متوجها الى ايران. اخترقت الشاحنات الطرق الوعرة، وعبرت تلك السلاسل الجبلية المتصلة مع بعضها، فتارة نجد أنفسنا في أعلى قمة، وأخرى نهبط إلى الوادي. كنا بلا خبز ولا ماء، إقدامنا متورمة، وأصابها الخدر بسبب الجلوس فترة طويلة دون حراك. وصلنا إلى الحدود الإيرانية. بقينا فترة يومين أو أكثر حسب ما اتذكر، قبل أن تسمح لنا إيران بدخول أراضيها. تخلصنا من ذلك الهاجس (تركيا) التي نخشى أن تقوم بتسليم الشيوعيين إلى السلطات العراقية، او ربما شعرنا باننا أصبحنا في أمان.

عند دخولنا ليلا الى الاراضي الايرانية، صادف ان وفدا ايرانيا، جاء ليتفقد اللاجئين، ومن أجل أن يعطي الإيرانيون صورة جيدة لنظامهم، قاموا بتوزيع البطانيات الجديدة والطعام الجيد، والتقطوا الصور، لكن ما ان ذهب الوفد حتى سُحبت البطانيات، وتم نقلنا الى مخيم (زيوة) الايراني، الذي يقع في شمال مدينة أورمية (الرضائية). يتألف مخيم (زيوة)، من قاعات كبيرة، تضم بلوكات طويلة مقسمة إلى مقاطع تشبه الغرف، لكنها من دون سقوف أو أبواب، وكل بلوك يحوي على عدد من الغرف المتجاورة. عندما وصلنا إلى (زيوة)، وجدنا عدد من الأنصار سبقنا إليها. وزعوا علينا الخيام للسكن في داخلها. كل خيمة تضم مجموعة من الرفاق.

في شهر كانون الثاني، هطلت ثلوج غزيرة، وبسبب من ثقلها، سقطت خيمنا، فتحدث رفاقنا مع العوائل الكردية التي كانت ترفض ان نشاركها السكن في البلوكات، وجرى الاتفاق على ان نسكن معهم. أمضينا في (زيوة) بضعة شهور، ثم بدأت السلطة الإيرانية بنقل العوائل الكردية التي نزحت بعد الأنفال 1988 إلى مخيم (خوي). وبعد استكمال نقلهم، نقلونا ايضا، حيث السيارات تحركت في طريق ضيق وملتوي بين الجبال الجرداء، والطبيعة االقاسية، متوجهين نحو معسكر (خوي) الذي وصلناه بعد 5 ساعات. المعسكر مسيّج بالأسلاك الشائكة، وعند أركانه الأربعة، تنتصب أبراج مراقبة فيها عسكريون مسلحون. لم تدخل الحافلات المخيم، بل وقفت تنتظر الأوامر التي جاءت متأخرة، فدخنا بعد التدقيق والتفتيش. تم توزيعنا على الغرف الصغيرة، كل عائلتين في غرفة لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار مربعة، أما العزّاب، فسكنوا في مكانين مسورين يعلو ثلاثة أمتار، ويضم كل منهما عدد من الغرف.

في مخيم (خوي)، وزعت علينا بطانيات عسكرية، لكل عائلة بطانية، وكانوا يزودوننا بالمواد الغذائية اسبوعيا، وهي عبارة عن كميات قليلة لا تفي بالغرض من الفاصوليا والحمص واللوبياء الجافة وقليل من معجون الطماطم والسكر والشاي، كما توفرت لدينا أدوات طبخ بسيطة، ومدفأة نفطية قديمة مستهلكة لكل عائلتين لاستعمالها في الطبخ.

بعد حين، طلبت اللجنة الحزبية من الرفاق جميعا، تأليف سيناريو عن حياتنا اليومية، ثم قراءته على مسامعنا، وعدم نسيان المعلومات فيما لو جرى إعادة التحقيق. إجراء التحقيق يمثل الخطوة الأولى لمغادرتنا إيران بشكل قانوني، اي الحصول على (ليزا باص)، وهي ورقة سفر لمرة واحدة. مرت الايام، وقيادة (الاوردكَة)، تعدنا ولا تفي بالوعد. طال الانتظار وبدا الجميع يبحث عن وسيلة للخروج من إيران. عرفنا بالصدفه أن (خالة أبو نصار)، قد هجرت إلى إيران، فجرى الاتصال بها، فتم تسهيل عملية خروجنا من إيران إلى سوريا، لنبدأ مرحله اخرى من الهجرة والمنفى...............

النصير الشيوعي العدد 29 السنة الرابعة كانون الاول 2024