رغم المطر المنهمر بغزارة، خرجنا نحن الثلاثة من مقر بيرموس، وسرنا باتجاه ألقوش، نصطحب معنا بغل السرية الرابعة (سرية سهل الموصل) الوحيد. في ذلك اليوم من أواخر نيسان 1988، كان المطر يزداد مع كل خطوة نخطوها، والريح تصفع وجوهنا، وتتحول شيئاً فشيئاً الى عاصفة، لكننا كنا نغذ السير، لأن لدينا موعداً لا يحتمل التأجيل، مع جحوش احدى الربايا التي تحرس الطريق بين ألقوش وبندواية. كانت السلطة تداور بين سرايا الجحوش كاحتياط أمني، فتمنح هذه المجموعة من الربايا المتجاورة كل مرة لعشيرة معينة.
قبل فترة علم الرفاق خلال احدى زياراتهم الدورية الى أهاليهم في المدينة، أن الدور في استلام مسؤولية ربايا المنطقة، وقع هذه المرة على العشائر المسيحية، وكان لنا في هذه الربيئة بالذات، واحد أو اثنان من الأنصار السابقين من أهالي ألقوش الذين سلموا أنفسهم الى السلطة قبل عامين أو ثلاثة.
زار الرفاق الربيئة قبل عشرة أيام، وجاءوا ببعض الارزاق، ووجدوا ان المجموعة تتكون من شباب ألقوشيين طيبين ومتعاونين، فاتفقوا معهم على موعد، يجلب فيه الرفاق معهم البغل، لأن الشباب وعدوهم بتوفير كميات من الطحين والرز والدهن والمعجون وغيرها. وكان ذلك فتحاً كبيراً للسرية التي صار توفير التموين مشكلة عويصة لها ولغيرها من وحدات الانصار بعد أن أطبقت السلطة الحصار على كل المنطقة المحرمة منذ العام الماضي. وكان الاتفاق هو أن نقترب مع أول خيوط الظلام الى أطراف الوادي الجبلي فيعطينا فارس، النصير السابق، اشارة بإضاءة المصباح اليدوي ثلاث مرات لنتقدم بعدها الى الربيئة. كان ماجد يسير في المقدمة فهو دليلنا لأنه ابن القوش، يعرف الجبل ووديانه مثلما يعرف راحة يده. كان نحيفاً طويل القامة، ابيض البشرة، مبتسماً دائماً متحمساً للعمل العسكري ولمدينته الصغيرة، وكان هذا الحماس يفاقم من طبعه الذي يجعله متسرعاً فيما يقول ويفعل، كما يضيع عليه أحياناً الحد الفاصل بين الشجاعة والرعونة. كنت أتبعه وأتبادل قيادة البغل مع أبو ظاهر المستشار السياسي للسرية، الذي يسير خلفي متدثراً كلياً برداء مشمع أخضر اللون مما يرتديه الجنود ضد الاسلحة الكيمياوية يصل الى ما دون الركبتين، حصل عليه مرة من إحدى الربايا. تبللت عويناته الآن كلياً وكان عليه ان يدفعها بإصبعه لتستقر جيداً على أنفه المفلطح. ربما هذا الأنف هو المسؤول عن ضحكته الطفولية المميزة. كان أول من يضحك عندما تنفضح لهوجته واختصاره غير الواعي للكلام، فهو مثلاً عندما ينقل للرفاق خبراً عن لقاء عزيز محمد بجلال الطالباني يقول التقت عزيزة جلال في اليوم الفلاني، ويسمي مفرزة يقودها أبو فاروق وأبو طارق بمفرزة أبو طاروق، فتصير تسمياته مثلاً.
تكاثفت الغيوم ونزلت الى الأسفل بحيث لم نعد نرى أعالي الجبل، وازداد المطر قوة وكان الوادي الذي نسير فيه يعمل عمل نفق يضاعف من شدة الريح السوداء التي تهب عكس اتجاه مسيرنا. تحولت المياه الى سيل كانت أقدامنا تغطس فيه وتنصب مثل الميازيب من كل مكان في السفح الذي نسير بمحاذاته. لكن ماجد لم يفقد أثر الطريق أبداً. ولم يبد عليه أنه طرح على نفسه السؤال المنطقي: لماذا يذهب كل أعضاء قيادة السرية بأنفسهم لجلب التموين؟ وربما كان معذوراً، فالحقيقة هي أنه لم يكن مطلعاً على جلية الأمر التي يعرفها رفيقاه. وهي أن أبو ظاهر التقى في المرة السابقة بآمر سرية المسيحيين المسؤولة عن مجموعة الربايا بعد أن سمع بوجود الانصار وأبدى رغبته بلقاء مسؤول من الحزب الشيوعي. كان رجلاً آثورياً من دهوك في أواسط العمر، قال انه يحمل ذكريات طيبة عن الشيوعيين ويريد أن يساعدهم في عملية كبيرة داخل مدينة دهوك وهو بذلك ينتقم لنفسه من الإذلال الذي يشعر به لأن الاستخبارات البعثية تتعامل معهم مثل العبيد أو مثل الحيوانات. كان شرطه الوحيد هو أن يخرجه الحزب مع عائلته خارج العراق بعد العملية مباشرة. قال انني لا يمكن أن أخونكم، لأن الخطوة الاولى ستكون إخراج زوجتي وأطفالي الى مقراتكم. كان كلامه منطقياً وقد أعطى اسمه الكامل وعنوانه للسؤال عنه وكان أبو ظاهر مقتنعاً بصدقه لأنه رأى الإخلاص يشع من عينيه. كان سينتظرنا اليوم في هذه الربيئة وكنا نحمل له الاجابة بالموافقة المبدئية على إخراجهم الى إيران لأن الطرق باتجاه سوريا وتركيا كانت صعبة وشبه مقطوعة. فاذا ما وافق سندخل معه في الحديث عن تفاصيل وتوقيت العملية التي يفكر فيها.
عندما وصلنا نهاية الوادي، كان الظلام دامساً بحيث لا يستطيع المرء رؤية أصابع كفه المفرودة أمامه، ولهذا الغيت المسافات وكان كل واحد منا يكاد يمسك ثياب الآخر. على مقربة من الربيئة، ربط ماجد البغل على جذع شجرة وعبرنا الطريق المعبد مستفيدين من الظلام وصرنا الآن تحت الربيئة مباشرة. ولم تكن هذه تشبه الربايا الجبلية، بل هي تلة ترابية مخروطية بارتفاع خمسة عشر الى عشرين متراً، وفي تجويف في أعلاها بنيت غرفة ومرافقها يصعد اليها طريق ضيق للمشاة من الجهة الاخرى البعيدة عن الجبل. كنا نجلس القرفصاء متقاربين ننظر الى عقارب ساعة ماجد الفسفورية الخضراء. مرت الدقائق بطيئة وتجاوزت الوقت المتفق عليه ولم تأتنا الاشارة. بعد عدة دقائق، همس ماجد بشيء لم يكن مسموعاً بشكل جيد بسبب صفير الريح. كان شيئاً من قبيل: " هذا الأغبر نسى الاتفاق". ثم قفز بشكل مفاجئ وتسلق هرم الربيئة. حاولت اللحاق به لإيقافه لكنه كان أسرع ولم يكن بإمكاننا الصياح عليه. بعد ثوان جاءت صرخة بددت صمت الليل: "قف، من أنت؟" أعقبتها صيحات اخرى وصوت ارتطام قوي كما لو كان سقوط جسم على سطح من الجينكو وقرقعة سلاح وسحب أقسام البنادق. لم يكن بإمكاننا عمل شيء، وفي تلك الثواني الممتدة دهراً لم يكن يسود سوى القلق والترقب اليائس. بعدها جاءنا صوت ماجد وهو يصيح: "ورن، ورن" ثم أعقبها بالعربية "تعالوا رفاق". ومعه صوت رجل آخر يصيح: "ورن كاكه ورن، بكرمكه". عندما تسلقنا وقفزنا بصعوبة الى داخل الربيئة، استقبلنا رجل خمسيني له عينان سوداوان لهما بريق وقد أشيب سالفاه الظاهران من تحت لفة الجمداني على ضوء الفانوس النفطي الذي كان يحمله رجل آخر. أستقبلنا بكثير من الود، لكن الغضب كان ما يزال بادياً على ملامحه. قال: " بس الله ستر ولحقت أصيح على الرجال لكيلا يطلقوا النار ويقتلوا صاحبكم. عمري كله ما شفت مثل هذا التهور!". كان ماجد يضحك أما نحن فكنا نشعر بالخجل ولم يكن لدينا ما نقوله. فهمنا أن ماجد قال للرجال أن لدينا موعد مع أحد المسيحيين الذي كان مستعداً لبيعنا مواد تموينية نحن بحاجة اليها. من جانبه قال مسؤول المجموعة انهم أكراد مزوريين جاءتهم الأوامر صباح اليوم لكي يستبدلوا المجموعة المسيحية التي تحولت الى مكان آخر. ثم دعانا الى دخول الغرفة وقال: "من حسن حظكم أن الشوربة مازالت حارة. نحن صائمون وقد باشرنا لتونا بتناول الفطور عندما قفز علينا الأخ".
تناولنا الاكل سوية، وتحدثنا بما يتحدث به عادة زوار القرى الكردية. ثم قال لنا الرجل أن لديهم مواد تموينية تكفيهم لعدة أيام تستطيعون أخذها كلها. ونصحنا بأن ننتظر ساعة لعل المطر يتوقف أو يخف لكي نذهب مصحوبين بالسلامة. وهكذا فعلنا. أما آمر السرية الآثوري فقد ضاعت أخباره مثلما ضاعت أخبار الكثيرين لأن أحداثاً كبرى حدثت بعد أربعة شهور جعلت كل وجودنا هناك في خبر كان.