ساصف لكم (بالألوان) لوحة ساحرة ومأساوية للأحداث، ولعل هذه القصة ستمكننا من التعلم من ماضينا، فكل فرد يتحرك في عالم عاطفي خاص به (ضمن ديالكتيك وآلية عواطفه شديدة التناقض)، فاليوم قد عدت للعيش بعواطفي وسط أنقاض الماضي، وأنتهت رغباتي بالتغيير نحو غد الاممية وتوحيد البشرية والاشتراكية، فلا أمل يرتجى وسط هذا العدم.
وقفت قبل أيام امام لوحة في متحف في لندن، تمثل ملاك باجنحة خفاقة يصل الى الخطاة لانقاذهم من الجحيم، والنيران حولهم مثل حقول القمح قبل الحصاد، وتساءلت لماذا ينقذهم؟
وتذكرت يوم كنا في سفوح جبل (الكاروخ) نقاتل عدوا.
ولاول مرة وانا بين رفاقي في (الكاروخ)، شعرت بالخوف من حقيقة الموت، فقد يضطر أحدنا إلى المضي قدماً، بينما يبقى الآخرون فى الخلف يراقبون موته.
ايهما سيذهب اولا؟
تطوعت انا، لكن مام نعمان ومام بايز منعاني، ثم عدنا جميعا بسلام.
حاولت أن أتذكر واسترجع كيف كانت تلك اللحظة في تلك الرحلة، عندما سرنا خطوة خطوة من الفجر حتى الغسق، وكيف ينبغي للعقل أن ينمو بهدوء، بينما يبقى الجسم مشغولا بالحركة المستمرة دائما، وأنظر الان الى الوراء لأرى من أين أتينا، والى أين ذاهبون؟
لا يوجد سرد مدون سابق لرحلتنا تلك، لذا سأصف شيئاً من الطرق التي سلكنا وما رأيناه على الطريق.
يستغرق المشي على طول الطريق من (گوستة) في المثلث العراقي/ الإيراني/ التركي إلى جبل (الكاروخ) قرب أربيل حوالي الأسبوع. هناك قرى على طول الطريق، حيث يمكنك الحصول على الطعام والمأوى، ولكن هناك أيضًا مسافات طويلة، حيث يمكنك المشي ليوم او يومين دون رؤية أي مسكن بشري، لان معظم القرى تم تدميرها وتهجير سكانها.
ينبت شجر الاسپندار في كل مكان حولنا، كأنه بحر من الرماح، وأعمدة زهوره البيضاء تتلألأ في ضوء الشمس. رأينا أكواماً من الصخور السوداء الصغيرة والكبيرة مكومة بعناية في مجموعات بارتفاع المنازل، في حين تمزقت أشجار الفواكه وكروم العنب حولها إلى أشلاء.
تجاوزنا الطين والأشجار المكسورة والأسوار الخشبية التالفة بسهولة، ووصلنا الى مكان يسمى بوادي الجوز (على ما أتذكر)، وهو مكان ارتفعت فيه الأشجار في مجموعة متشابكة من الشجيرات الشائكة الكثيفة والنباتات الزاحفة، ويتعين عليك القتال من أجل المرور عبرها، وهو الوادي الذي جاء اليه الجنود لمطاردة البيشمركة، وقطعوا أشجارا كاملة مليئة بالفاكهة وحملوها إلى الحرائق التي اشعلوها في الوديان الصغيرة.
على أية حال، مشينا لبضعة أيام، وكنا على وشك الوصول إلى أعلى قمة في طريقنا، عندما تساقطت الثلوج الضخمة وأغلقت الطريق واضطررنا الى النزول الى الوادي بالأسفل. لقد تبعنا بقايا مسار البغال المهدم، وقادنا الى مسجد حجري صغير مبني بحواف مستديرة ناعمة تبدو كما لو انها مصبوبة في الطين.
كان الجامع على حافة صخرية متعرجة من جميع الجوانب مثل سلسلة صغيرة من التلال، وفوق الباب المغلق المطلي باللون الترابي المحمر كُتب بخط رديء اسم الجامع.
واصل طريق البغل النزول بنا عبر غابة من أشجار البلوط، وكانت بقايا الجذوع القديمة محاطة بغابات من الشجيرات البرية الصغيرة، وهناك جسر محدب فوق نهر عميق هادر يؤدي الى قرية.
منازل القرية في معظمها في حالة جيدة، وأبوابها مفتوحة ونوافذها مغلقة، وتقع على سفح متعامد مع مساحات نباتية جافة منتشرة على حافة الانحدار، وغير بعيد عنها مقبرة محاطة بأسوار قرب طريق ضيق كأنه مسفلت، وكانت هناك هاوية عميقة بالقرب من أقدامنا ونحن في طريقنا نحو مساكن الفلاحين لتناول العشاء، ولم اعد أتذكر اسم القرية، وهي في منطقة ربما بين قرية ليليان وجبل قرية كوليتان او سهل هيرت او حول مناطق برادوست.
إلتقينا بفلاح، رحب بنا بحرارة، وطلب منا الانتظار قليلا، وكان يحمل سلة مليئة بالطعام:
حفنة من الفاكهة الحلوة التي نمت في مثل هذه الوفرة بالقرب من النهر، واكلة من المطبخ، حفنة من الأوراق الخضراء الجيدة للأكل وأشياءا أخرى.
توقف الفلاح لملأ إبريق بمياه نقية، ثم فتح باب واطئة بالسياج الخشبي الذي يحيط بمنطقة مزروعة، وطرق بأدب على باب سقيفة كان ينام فيها احد ما.
سمعنا صوتا يجيب على تحيته، وبهذه الإشارة دخل المنزل تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه حتى يتمكن بقايا ضوء الشمس من تغطية الجدران والأرض، وجلس على دلو مقلوب، وقدم طعاما لامرأة عجوز، ثم ملأ حوضا بالماء وانتظر ربع ساعة بصبر، بينما واصلت العجوز الاكل وكأنها في مهمة البقاء على قيد الحياة، وكان الفلاح سعيدا بمشاهدتها وهي تأكل وتتحدث معه.
طارت الطيور عبر السماء وعادت واستقرت فوق الأشجار، وعدد قليل من الدجاج دخلت الحظيرة، وفي منتصف باحة المنزل تقريبا كانوا يخدشون الارض ويبحثون عن الطعام قبل ان يبعدهم الفلاح برجله، ثم اخذنا الى منزل اخر ليس بعيدا وتناولنا معه طعام العشاء الدسم.
وعندما غادرت للمرة الأخيرة كردستان وجبالها، بدأ الأمر كما لو اني قد انفصلت عن جسدي وعن تراكم الأحلام والذكريات التي تجمعت حولي هناك، وبقيت صورة الفلاح الكردي وكرمه في ذاكرتي كأنها شمس لا تغيب.