في آذار 1980، كنت في قاعدة (هيرتا بهورامان) حين صعقت بخبر استشهاد الرفيق معتصم عبد الكريم (ابو زهرة) مع رفاقه في معركة (قزلر). آخر لقاء بيننا كان قبل أكثر من سنة من استشهاده. إلتقينا صدفة في طرف من "الباب المعظم"، لقاء عابر، فقد كان بصحبة مجموعة من اصدقائه وزملائه، وكانت هجمة البعث لتصفية تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في أوجها بعد اعدام الرفاق العسكريين. لا أذكر من اللقاء الأخير بمعتصم سوى ان عقله الذكي كان يزدحم بالأسئلة الموجعة. لم ألتقيه بعدها ولم أعرف عن إلتحاقه بالأنصار الّا من الأخبار التي نقلت استشهاده في معركة قزلر.

عرفته كادرا ميدانيا نشطا في اتحاد الطلبة العام منذ عام 1973، ساهم في بناء تنظيمات الاتحاد في ثانويات بغداد. كلفنا معاً بتحضير وخط وتعليق لافتات الحزب بمناسبة اعلان الجبهة مع البعث، وكان معتصم بين مجموعة الخطاطين. بعدها عرفته عضوا في لجنة الثانويات المهنية التابعة للجنة ثانويات بغداد، واسمه الاتحادي "ساطع".

حضرت أكثر من اجتماع في بيته، في حي "14 تموز" على ما أذكر، بين شارع فلسطين وقناة الجيش، غرفته في الطابق الثاني من البيت كانت ورشة رسم، لوحة على رافعتها لم تكتمل، واخريات مركونات، أصباغ زيتية وغير زيتية، أقلام حبر وفحم وغيرها، كتب وأوراق ومستلزمات رسم، رائحة الأصباغ وجدران تتوزع عليها تخطيطات ولوحات وصور، وفوضى الفنان... كنا نجلس في نصفها الآخر وعيوننا على نصفها الأول.

معتصم بأدبه الرفيع كان محبوبا من الجميع، ودودا وطيبا، هادئا بنشاط، له حضور جميل، ذكاء لامع وانتباهات ملفتة واستجابات سريعة... بعض زملاؤه أصدقاء له، حين انتهى الاجتماع انتقل بعضهم الى النصف الآخر من الغرفة، يبحلقون في أعماله الفنية ولوحاته المرصوفة والمعلقة وغير المكتملة، وبتعليقات كان يسمعها مبتسما ويفتح عينيه لها دون ان يعلق أو يجيب:

- هذي تجريدية مو؟... يسأل أحدهم بمماحكة.

- لا هذي سريالية... تلك تجريدية، يجيب الثاني دون علم.

- هذا فن برجوازي لن تفهمه الجماهير... يقول آخر.

- لماذا لا ترسم لوحات نستطيع فهمها؟

- يا أخي... نريد لوحات ثورية!

يدخلون في نقاش بينهم عن الشكل والمضمون في الفن، والفن للفن ام الفن للجماهير، ومعتصم ينظر إليهم مبتسما هادئا، كأنهم يتحدثون في أمر غير لوحاته، وحين تمتد يد عابث الى لوحة ينهره بمودة وابتسامة:

- لا تلعب!

لفتت انتباهي تلك الموهبة وهذا التمكن من الرسم، ماذا يفعل هذا الفنان الموهوب بيننا؟، نحن ناشطي التنظيم في الاتحاد والحزب... له ملكة في التعبير ومتمكن من اسلوب خاص به في التأثير والايصال، لا نمتلك نحن ذلك، وكيف يجد هذا الرسام وقتا لفنه ومواعيد العمل الاتحادي واجتماعاته تأخذ كل وقتنا؟... كان معتصم شخصية جذابة بهدوء، وملفتة باهتمام، سألت مسؤول لجنة المهنيات عنه، والأخير شاعر مرهف الحس هو الآخر، كان معجبا بمعتصم، قال انه "فنان حقيقي" وأيضا لديه الاستعداد لتنفيذ كل ما يطلب منه في العمل الاتحادي، "جهاديته عالية" ولا يقصر في عمله الاتحادي ويلعب دورا في بناء تنظيمات الاتحاد وتقويتها في الثانويات المهنية، لا يمكن الاستغناء عنه.

ظلت تلك الصورة الجميلة ثابتة في خيالي عن معتصم عبد الكريم، بعد تجميد الاتحاد التقيته في تنظيمات الحزب في مناسبات قليلة، والتقينا مرات أكثر في أماكن ومناسبات عامة بينها معارض رسم، كان لمكانته أثر جميل في نفسي، رسخته مأثرته الأخيرة حين التحق بالأنصار مبكرا، وحين قاتل مع رفاقه في معركة قزلر، وحين ضحى بحياته الشابة من أجل القضية النبيلة التي آمن بها، كان في العشرينات من حلاوة العمر.

بعد استشهاده بشهور جئت لقاعدة "ناوزنك" حيث كان الشهيد قبل ذهابه في المفرزة الأخيرة، سألت عنه كثيرا، حدثني أصدقاؤه ورفاقه عنه وعن جهوده في انقاذ العديد من الرفاق، بمساعدتهم على الالتحاق بالأنصار، بينهم رفاق عاملون في القسم الفني لـ"طريق الشعب"، فحين التحق معتصم بالأنصار مبكرا عاد أكثر من مرة الى بغداد ليساعد رفاق آخرين في الوصول الى قواعد الانصار عبر "قلعة دزة"، فتح طريقا لهروب الرفاق، وذهابه مع المفرزة الأخيرة التي خاضت معركة قزلر كان بقصد التسلل الى بغداد لمساعدة رفاق وأصدقاء يعرفهم... كان يفكر بهم، اولئك الذين تركوا لمصائرهم الشخصية، دون خطة للانسحاب او مساعدات تنقذهم من قبضة رجال السلطة.

التخطيط المرفق كان من بين رسائله الأخيرة الى أحد رفاقه، رسالة بعثها وهو في تجوال مع المفرزة التي خاضت معركة قزلر. من ينظر فيه يرى الكثير، وجه معتصم في مركز الصفحة ووسطها، رأسه محمول على وتد مثبت بقاعدة مكعبة، كتب عليها "أما أنا فلا أخلع صاحبي" وعلى ضلع آخر منها كتب "صدك وتصير وأذبحلك ذبيحة"... كأنه يوحي الى رؤوس مذبوحة لشهداء مناضلين كانت تعلق على الاوتاد بعد قتلهم، الحسين والحلاج مثلا... هل كان "أبو زهرة" يتنبأ بمقتله؟ ام انه هاجس المقاتلين وهم في ساحات الكفاح؟... التخطيط فيه الكثير مما يوحي ويفصح، علم العراق على سارية مربوط بقمتها ثلاث بالونات، والسلم الذي يقود الى شمس باسمة "أجمل عروسة"، الحذاء المتهرئ المربوط بأعلى الوتد الذي يحمل رأس الشهيد، السيارة التانكر، السطل، ودودة "ما تعض".... وتلك الكتابات "ماذا أحدث عن بغداد يا أبتي... مليحة عاشقاها السل والجريمة" ومقاطع شعر أخرى متناثرة، و"رسالة مستعجلة"... و"المنايا الما تزورك زورها... خطوة التسلم ذبايح سورها" كتبها "خطوة التثمر"!...

بيان استشهادك يا معتصم، وبيان لأسئلة تجول في رأسك قبل أن تستشهد... أي خسارة لم تعوض!

"هودج موتك إمحنّه ...

هودج موتك ... إتسلّم عليه الشمس

هودج موتك أوليدي ..." م.ن

 

من الاعمال الفنية للنصير الشهيد معتصم عبد الكريم

عن 

النصير الشيوعي العدد 30 السنة الرابعة كانون الثاني 2025