خيط الذاكرة الواهي ما برح يفلت مني، اغمض عيني وأدع الوقت يعود بي. حينما ركبت السيارة المتجهة إلى مدينة القوش، انبعثت أشعة غسق الأيام الأخيرة من شهر أب سنة 1985، كنا وقت الشفق، الطيور تؤوب إلى أعشاشها، والسكون يلف المكان والناس.
بعد ان ضاقت دائرة النجاة، وازداد التوتر والقيود علينا، وأصبحنا هدفاً لسهام الأمن والمخابرات، نحن مَن عملنا داخل المدن. اتخذت قراري بالرحيل، اختفيت لبضعة أيام كي يتسنى لي الهروب إلى كردستان، عن طريق مدينة القوش.
في سيارة نقل المسافرين الكبيرة، جلستُ مع امرأة تعمل ممرضة في إحدى مستشفيات العاصمة بغداد، مكلفة من الحزب بمرافقتي إلى وجهتي، ومن ثَم إلى الأراضي المحررة في كردستان.
أفلتت أفكاري مني، صارت تعدو في كل الاتجاهات، بدأت ارتجف جرّاء قلق مميت وأحاسيس غريبة.
أغط في صمت عميق، لكن صوتاً ما في رأسي لا ينقطع، يذكرني بسنوات طويلة عملت فيها بنقل البريد الحزبي من بغداد الى كردستان .
روحي شديدة الإعياء، وقلبي مثقل بالهموم، والظروف التي تحيط بي تزداد تعقيداً. عبرنا كافة السيطرات المتواجدة على الطريق دون أدنى مشكلة، حتى بلغنا السيطرة الأخيرة، قبل مدينة القوش، التي سأكون بعدها بأمان، صعد اثنان من أزلام الأمن، متوجهين نحوي مباشرة، على ما يبدو كنتُ مراقبة من قبلهم، أو ربما أحدهم قد بلغ عني!.
في زنزانة مظلمة بسجن الموصل اعتقلت، حيث مكثت فيها بضعة أيام. رُحلتُ إلى أمن بغداد، وهناك نلت صنوفاً من العذاب، وأساليب الترهيب والترويع أثناء التحقيق، تجاوزت الأسبوعين. رجال غلاظ القلوب لا يعرفون الرحمة، يتكلمون بأصوات فجة ووقحة وكاوية، نظرات الجلادين والقتلة. أجدني حين استعيد وعيي، راقدة كحطبة على أرض رطبة، لا أرى سوى ظلام دامس يحيط بي!.
بعد جولات عديدة من التحقيق والإساءة، طلبوا مني التعاون معهم، وإلا لن يرحموني، هددوني بالاعتداء علّي!، الألم الكبير أن تسحق روح الانسان قبل جسده.
قدموا لي مختلف الإغراءات والترغيب، انصعت لهم وأرغمت نفسي على القبول بعرضهم، وامتثلت للتعاون معهم، إلا أنها مجرد حيلة للتخلص من التعذيب والخوف من الاعتداء عليّ. همي الوحيد بات في الخروج من المعتقل، وعند ذاك اتدبر امري.
شمس الغسق، تميل بتؤدة في فضاء السماء، وفوق الطرق الممتدة على المدى، رحت أنظر إلى الشارع، أتأمل المارة بوضوح، في المدينة التي يكتنفها الغروب بعد ان اطلق سراحي.
عدت الى مكان عملي بشكل طبيعي، لكن فكرة الهروب من بغداد استحوذت عليّ تماماً، كما أن أزلام الأمن، كانوا يضايقونني ويضغطون بكل السبل لإجباري على السفر الى كردستان، كي أسرّب لهم الأخبار و أضع بين أيديهم البريد الذي سأحصل عليه من الحزب.
أبان التحقيق تكشفت لي حقيقة بشعة: هي أننا مكشوفون أمام السلطة الفاشية، والشخص الذي كان همزة الوصل بيني وبين الحزب، يتعاون مع المخابرات وينفذ أوامرهم، ويسلمهم البريد الذي انقله الى بغداد!.
السماء مكسوة بغطاء رقيق من الغيوم الرمادية، لحظات توجس آنية وغير إرادية تصعب ملاحظتها، ركبت القطار المتجه إلى الموصل، ثم استأجرت سيارة خاصة اوصلتني قرية (دهي) القريبة من دهوك، كان اخي الشهيد ابو حسن بانتظاري.
أمضيت عدة أيام هناك، فيما بعد ذهبنا الى الفوج الثالث ( كلي هصبة)، الذي لم أغادره حتى خروجنا من كردستان بعد الأنفال.
..............................................
الرفيقة النصيرة ماركو بولص، واسمها الحركي (رجاء)، إلتحقت بصفوف حركة الانصار الشيوعيين العراقيين في اواخر شهر اب ، وعملت في منطقة الفوج الثالث (كَلي هصبة). تزوجت الرفيقة رجاء من الرفيق الراحل سهيل فاضل (ئاشتي) اثناء وجودهما في الجبل، بتاريخ 6 اذار 1988.