في السابع عشر من أيلول 1967، حدث انشقاق داخل الحزب الشيوعي العراقي، وتمكن المنشقون من إعتقال الفقيد عضو اللجنة المركزية زكي خيري، إلا أنه تمكن من الهرب بمساعدة بعض الرفاق والوصول إلى مكان آمن.

ذات مساء، زارنا الرفيق عضو اللجنة المركزية للحزب الشهيد ستار خضير، وتحدث لنا عن طبيعة الأنشقاق واسبابه وتأثيره على الحزب، وهمس بإذن والدي بأمر ما، ثم غادر البيت مسرعاً. بقي الوالد منتظرا، وهو يقوم بحركات غريبة. مرت ساعات قبل أن يدخل الشهيد ستار خضير ثانية برفقة رجل مسن بانت عليه علامات التعب، انه المناضل زكي خيري، وقد ارسله الحزب كي يكون ضيفاً علينا لبضعة أيام، حفاضا على حياته، ولغاية أنتهاء الأزمة.

كنت سعيدا بإستغلال هذا الوقت، للحديث مع الرفيق زكي خيري (ابو يحيى)، عن طبيعة الأنشقاق وأسبابه، وبنفس الوقت، كنت اهتم به وألبي احتياجاته. يقضي الرفيق النهار بمطالعة الكتب المتنوعة المتوفرة لدينا، ويستعمل التلفون احياناً للأتصال برفاقه، اما في ساعات الليل،  فيجلس معنا كواحد من العائلة، بينما يقوم والدي بإعداد القهوة العربية، ويتبادل معه الحديث عن ظلم الاقطاع في الجنوب، واحيانا يتبادلان ابياتا من الشعر الشعبي.

يخرج الرفيق (ابو يحيى) من البيت ليلاً (عند الضرورة)، متنكرا بالملابس العربية (العقال المذهب، واليشماغ الأبيض، والعباءة الكلبدون)، فيبدو كما لو انه شيخ عشيرة معروف، ودائما ما يحدد لنا موعد عودته، ويطلب منا إعلام الرفاق فيما لو طالت فترة غيابه عن الساعة المتفق عليها.

ذات ليلة وبعد حديث بالتلفون، طلب الأذن بالخروج لمهمة سرية، واخبرنا بأنه سيعود خلال ساعتين، وفي حال عدم عودته، يرجى اخبار الحزب بذلك. غاب الرفيق لمدة 3 ساعات، كنا خلالها في قلق كبير، وأبلغنا الرفاق بالأمر، فقلقوا ايضاً. خرجت ابحث عنه في أزقة المحلة دون جدوى. الرفاق يتصلون بنا بين فترة وأخرى، حتى دخل علينا فجأة، وهو متعب، قال: (لقد أضعت الطريق إلى البيت وسط ظلام الأزقة، مما أضطرني إلى القيام بجولة حتى أهتديت إلى بيتكم ثانية، أنا آسف، أعرف إني أقلقتكم وأعدكم لن أعيدها ثانية.

مكث الرفيق في بيتنا عدة أيام، وفي أحد الليالي طلب مني التحدث بعيداً عن الأهل في مسألة غاية في الأهمية، وسألني هامساً: (هل انت مستعد لتنفيذ مهمة حزبية سرية؟). كانت المهمة هي مرافقة احدى الرفيقات الى قاعدة الانصار في قرية (بيرسرين) شمال العراق. لم اسأل عن التفاصيل، لكني سررت لهذا التكليف الصادر من قبل الحزب، ووافقت بسرعة، ومن دون مناقشة لطبيعة المهمة وخطورتها، خاصة وانها اول تجربة لي لزيارة مواقع رفاقنا الأنصار.

في ذلك الوقت، وصل خبر الانشقاق الى قاعـدة الأنصار في (بيرسيرين)، كما ان الرفاق فيها، كانوا  يشكون من شحة الأمكانيات المادية لمواصلة نشاطهـم، لذلك قـرر الحزب ارسال أحدى الرفيقات إلى هذه القاعدة لغرض ايصال المساعدة المادية مع توجيات الحزب الجديدة.

كانت العمليات العسكرية بين السلطة والبيشمركة، متوقفة في تلك الاثناء، بسبب المفاوضات بين الحكومة العراقية والثورة الكردية والتي تجلت بأتفاقية 11 / آذار 1970.

ليس لدينا معرفة بالقرية او موقعها في كردستان، ولكن الرفيق (ابو يحيى)، زودنا ببعض المعلومات الأولية مثل: اسماء الرفاق الذين نتصل بهم كمرحلة اولى، ثم التوجه الى الموصل، ومنها الى القاعدة الانصارية. إنها عملية محفوفة بالمخاطر.

غادرنا بغداد صباحاً متوجهين الى الموصل، وحسب المعلومات التي زودنا بها، كان لقاءنا الأول مع القائد الأنصاري توما توماس الذي رحب بنا، وبعد استراحة قصيرة، طلب من احد رفاقنا (سائق تاكسي)، ان يأخذنا الى اربيل، ومنها نتوجه الى قرية (بيرسرين) بسيارة اجرة لرفيق اخر، على ان نصلها قبل المساء.

كانت الرحلة صعبة، وأخذت وقتا طويلا، تعرضنا خلالها الى التفتيش الدقيق والاسئلة عن سبب توجهنا الى مناطق (العصاة!)، وكنا ندعي ((البحث عن شقيق الرفيقة، وهو جندي مكلف انقطعت اخباره عن العائلة منذ عدة اشهر لأسباب نجهلها، وكانت آخر رسالة له من قرية بيرسرين)). بقيت والرفيقة جالسين في السيارة في نقطة التفتيش. في هذه الاثناء، سمعنا اصوات لرشقات اسلحة رشاشة بعيدة، مما اقلق عناصر السيطرة الذين اخذوا وضع الاستعداد، وطلبوا منا المغادرة فورا، وهكذا لعبت الصدفة دورها في انقاذنا من الأعتقال.

تقع قرية (بيرسيرين) في منطقة جبلية وعرة، وكلما اقتربنا منها، تعترضنا سيطرات البيشمركة بالاسئلة عن وجهتنا وغايتنا ايضا، وهكذا حتى وصلنا عند المساء. وصل الخبر الى رفاقنا الأنصار في القاعدة، وتم استقبالنا بترحاب. طلبنا على الفور، اللقاء بالرفيق الفقيد نعمان علوان سهيل (أبو عايد / ملازم خضر)، الذي جاء مسرعا ومرحبا، وبعد استراحة قصيرة، تناولنا خلالها العشاء الأنصاري المتواضع، سلمت الرفيقة ما لديها، وذهبت لتحل ضيفا على احدى عوائل رفاقنا، بينما بقيت مع الرفاق الذين قضيت معهم اوقاتا جميلة، وشاركتهم اداء الخدمات اليومية، وحضور الامسيات السياسية والثقافية.

كانت الحياة الأنصارية في القاعدة التي امضينا فيها مدة يومين، صعبة جداً، بسبب الحصار الأقتصادي المفروض على المنطقة، وصعوبة الحصول على المواد الغذائية اليومية، ومن الطرائف التي اتذكرها، وبعد مناقشة الرفاق كيفية الحصول على المواد الغذائية، قال الفقيد الرفيق (ملازم خضر) أمام الرفاق، بانه صياد سمك ماهر، فما هو رايكم، وبمناسبة وصول رفاقنا بسلام، ان تكون وجبة الغد سمك مشوي؟. وبالفعل، وفي جو صباحي بارد، خرج الرفيق ابو عايد وخمسة رفاق اخرين وانا من بينهم، وكل واحد يحمل صنارته متوجهين الى النهر، لكن فترة الانتظار امتدت الى ما بعد الظهر، فدب الياس وفقد الجميع الامل حتى في صيد (زورية)!، وقرروا العودة الى المقر. في هذه الاثناء اصيب الرفيق ملازم خضر بالاعياء، وتعثرت قدمه، فسقط في النهر. تعاون الرفاق على انتشاله من الماء البارد، معلقين: انهم اصطادوا سمكة كبيرة!..........

بعد إتمام المهمة التي كلفنا بها الحزب، والتي دامت يومين، ودعنا رفاقنا وعدنا إلى بغداد بنفس سيارة رفيقنا سائق التكسي الذي كان ينتظرنا عند مدخل القرية.  لقد كان لهذه التجربة، وبالرغم من قصر الفترة، تأثير كبير في حياتي لاحقا.

عن النصير الشيوعي