أثناء الحملة الفاشية الشاملة لتصفية الحزب الشيوعي العراقي نهاية 1978 وبداية عام 1979، قررنا اللجوء إلى كردستان، تخلصاً من قبضة السلطة، والبدء في عملية الكفاح المسلح، كرد لا بد منه على النهج الدموي الذي تحول إلى ممارسة يومية للسلطة وأجهزتها القمعية المنفلتة.

لم تكن الأمور واضحة بالنسبة لي، لكن في ذهني صور مثالية عن هذا الشكل من النضال، لهذا لم احسب للصعوبات والمخاطر التي ستواجهني. الشيء الوحيد الواضح للجميع، هو الحماس والاندفاع من أجل الرد المناسب لممارسات السلطة وأجهزتها، والدفاع عن الحزب والجماهير، ولتكن الصعوبات والمخاطر ما تكن، فطالما هناك إرادة ثورية وتصميم، فلا وجود للمستحيل، المستحيل هو أن ندع السلطة وجلاوزتها تسخر من شهدائنا وتتمتع بعذاباتنا.

تلك العواطف الجياشة هي محركنا لقهر الصعوبات والوصول إلى الهدف المحدد. وهكذا سارت الأمور منذ الأيام الأولى. فبعد محاولات عدة للوصول إلى كردستان، استطعنا الانطلاق من مدينة أربيل في منتصف آذار عام 1979، بعد أن تجمع عدد من رفاق مدينة الموصل، وبمساعدة رفاق من مدينة أربيل، تحركنا في 21 / نوروز، لتبدأ رحلة الأنصار الأولى نحو الحدود الإيرانية.

كان عددنا 25 رفيقاً، ولم يكن معنا أي سلاح. في اليوم الثاني، ونحن في سهل أربيل، تعهد رفيقان من أهالي المنطقة بمساعدتنا. الأول معه بندقية كلاشنكوف، والثاني معه بندقية برنو قديمة. أغلب الرفاق لم يجرب هذا النمط الجديد من النضال، ماعدا ثلاثة منا. بدأت المعاناة منذ البداية، إذ كان علينا المسير طوال الليل على شكل رتل ودون أحداث أي أصوات. الاستراحة القصيرة بعد تسلق الجبال الشاهقة، تحولت الى نقمة علينا، فبعد الجلوس بفترة قصيرة، يبرد الجسد الساخن المتعرق، وحينما يبدأ المسير مرة ثانية، تبدأ العضلات (خاصة عضلات الاطراف) بالتقلص، فتسبب التشنج والآلام، وتزيد من شدة التعب، لكن تأثير ذلك على الرفاق متباينا، بسبب فرق العمر والتجربة، أو التعود على المسير في مثل تلك الظروف والتضاريس.

تألفت مجموعتنا من رفاق من مختلف الأديان والطوائف العراقية، يجمعهم هدف واحد وطموح واحد. بعد مسير ثمان ساعات، توقف الشهيد (أبو أسمر) عن المشي، وجلس بالقرب من ربيئة للجيش. لم تنفع معه محاولات اقناعه بضرورة مواصلة المسير، واصبح أمامنا موقف ينبغي حسمه، فهل نتركه ليموت من البرد، أم نبقى معه لنموت جميعاً؟، حتى محاولات الدليل معه، بالقول: (أمامنا طريق طويل محفوف بالمخاطر)، لم تجد نفعاً هي الأخرى!.

تباينت آراؤنا بين العاطفة تجاه رفيق كبير السن، وبين الأمر الواقع. كان رأي الدليل والرفاق الثلاث الذين سبق وأن عملوا في صفوف الأنصار إلى جانب تركه ومواصلة المسير، حتى لا تتعرض كامل المجموعة للموت، فالمكان محاط بالمواقع العسكرية، إلا أن الأغلبية عارضت هذا الموقف وانتقدوه بشدة. وأخيراً حسم الموقف بتعهدنا، أنا وأبو آمال على حمله.

سخر منا الدليل. لم يسبق لي أن حملت إنساناً على ظهري، لكن الموقف يتطلب المحاولة. حملنا الرفيق (أبو أسمر) مسافة كيلومتر تقريباً، فاستنزفت تلك المحاولة كل طاقتنا، لكن المفرزة كانت تنتظرنا كلما توقفنا. أدركنا أن مفرزة الأنصار، مهما كان عددها، تتحول إلى جسد واحد وروح واحدة. مرة ثانية جرى النقاش حول وضع الرفيق (أبو أسمر) بعدما عجزنا عن حمله، وتم الاتفاق على أن نتركه، فأعطيته معطفي وبيضتين وكسرة خبز. ودعناه بحسرة وألم، فلا خيار آخر لدينا.

استمر المسير لليوم الثاني والثالث والرابع..الخ، تعودنا على هذا السير المتعب وقلة النوم والجوع، لنكتشف بعض المعوقات التي لم نفكر بها قبل البدء بهذه المسيرة، من مثل: نوع الحذاء، الذي أصبح معيقاً بعد فترة من المشي.

في اليوم السادس، إلتقينا بأول مفرزة للحركة الاشتراكية، بقيادة سليم راوندوزي، الذي أستشهد ببطولة فيما بعد. طوقتنا هذه المفرزة دون أن نشعر بها، ظناً منها أننا من أتباع السلطة. وبعد معرفتهم بأننا من الشيوعيين، جرى الترحيب بنا، وأبدوا الاستعداد للمساعدة. بعد يومين إلتقينا مفرزة ثانية لنفس الحركة، وكانت بقيادة عوله سور (أي عبد الله الأحمر)، فكان موقفه سلبيا، والظاهر أنه لم يرتح لوجودنا في المنطقة، ورغم تعهده بمساعدتنا، إلا أنه تركنا في منطقة بالقرب من جبل قنديل وسط عدد من ربايا السلطة.

بعد ذلك قررنا الاعتماد على أنفسنا، ولكن، بسبب التعب والجوع والبرد والمسير في الأراضي المحرمة الخالية من السكان، بدأ بعض الرفاق بالتذمر، وبدأت أسئلة، من مثل: (كم عدد الأيام الباقية للوصول، أو متى الوصول إلى منطقة آمنة...الخ)؟، وشارك الجميع بتوجيه هذه الأسئلة إلى الرفيق الدليل، الذي كان لأجل تشجيعنا على المواصلة، يحدد ساعة واحدة، مثلاً، لعبور أحد الجبال، ولكن فترة الصعود تطول ساعات عديدة. كثرت الاقتراحات التي يدعو بعضها لاستراحة طويلة أو النوم..الخ.

زاد الأمر تعقيداً حدث جديد، إذ تعرض الرفيق (أبو آمال) لحالة من الإغماء بسبب الإرهاق والجوع، وكانت تلك الحالة تأتيه بين فترة وأخرى، مما اضطر المفرزة للتوقف للراحة، وعمل مساج له، وأحياناً حمله. أخذت منا تلك المشكلة وقتاً كثيرا. وساءت صحته في ليلة 30-31 / آذار، مما أدى إلى توقف المفرزة، التي مر عليها ثلاثة أيام في المنطقة المحرمة، من دون طعام أو نوم. بعد نقاش طويل جرى الاتفاق على أن تبقى مجموعة من الرفاق معه. تطوعنا ستة، كان من بيننا الشهداء: أبو ماجد، أبو فؤاد، سلام، وسركوت، وأمضينا ليلة قاسية وسط ثلوج جبل قنديل الرهيب، حيث خلع بعضنا معاطفهم لصنع فراش وغطاء للرفيق، ودون تفكير بمخاطر أشعالنا للنار وتحلقنا حولها.

لم نعرف أن فوقنا في القمة توجد ربيئة للسلطة. تهيأنا للحركة في الساعة الخامسة صباحاً بعد ليلة قاسية لا تنسى. وقبل الشروع بالتحرك قال الرفيق أبو آمال وابتسامة خجولة على وجهه: ((أهنئكم، أيها الرفاق بعيد الحزب، وأعتذر عما سببته لكم من متاعب ومخاطر، أرجو منكم أن تطلقوا عليّ النار في حال تعرض المفرزة لخطر !)).

بادلناه التهنئة دون تعليق على مطلبه، وبدأنا المسير بصمت، لكن أزيز قذيفة مدفع أطلقتها الربيئة وصوت انفجارها المدوي، جعلنا نركض باتجاه منطقة كثيفة الأشجار. تحركنا بسرعة لنبتعد عن مدى القذائف، وخفنا من أن ترسل السلطة طائرات هليكوبتر لملاحقتنا. بعد مسيرة سريعة، هدّنا التعب، وعجز رفيقان عن المواصلة، فتوقفنا عند روبار (نهر صغير). التعب والجوع جعلانا في حالة يرثى لها، حتى الكلام كان صعبا علينا.

انقسمت المفرزة، ولا نعرف أي معلومات عن مصير المجموعة التي غادرتنا مع الرفيق (أبو آمال). نحن الآن في وضع مشابه، فهل ننقسم أيضاً؟. لتجاوز هذه المعضلة، لابد من البحث عن طعام، ورحنا نتداول الآراء. كنت خلال ذلك، أستذكر بعضاً من ذكريات الأنصار الكوبيين في كتاب قرأته قبل عام، والذين مروا بظرف مماثل، مما اضطرها لقتل أحد البغال وأكل لحمه. وجلت بنظري في المنطقة وصرخت: (وجدت الطعام!)، فتجمعت المفرزة حولي، وأشرت لهم على قطيع من الخيول والبغال السائبة قرب بقايا قرية هدمتها السلطة وهجرت أهلها إلى المجمعات القسرية. حينها تحول الحلم إلى حقيقة، وما علينا إلا اصطياد واحداً منها.

تسللنا خلفها، ولكنها أحست بوجودنا، فابتعدت قليلاً. تسللت مع الرفيق (أبو ماجد) حتى صرنا في موقع يمكن إصابة واحدة منها بسهولة. أطلق الرفيق (أبو ماجد) رصاصة من البرنو القديمة نحو مهر صغير، فأصابه في كتفه. لم يسقط، بل توقف عن الحركة والدم ينزف منه بغزارة. كان المنظر مؤلما جداً، لكنه أيضاً الخيار الوحيد لبقائنا على قيد الحياة في ذلك الظرف. انتظرنا فترة، إلاّ أن المهر لم يسقط. صوب (أبو ماجد) البندقية نحو رأسه، إلا أن البندقية قد حشرت. وبعد محاولات لتنظيف البندقية، أطلق الرصاصة الثانية على رأسه، ليتهاوى إلى الأرض بلا حركة.

بدأ الرفيق (أبو ماجد) بقطع أحد الفخذين، وكنت أساعده ورأسي إلى الجهة الثانية، حتى لا أرى المنظر، فأنا لم أمر بمثل تلك التجربة، إلا أن الرفيق (أبو ماجد) قال لي مستغرباً: (كيف ستأكل من هذا اللحم وأنت لا تستطيع النظر إلية !؟). كانت لحظات صعبة. بعضنا أظهر اشمئزازاً من هذا اللحم، حتى أن أحدنا قال : (لن آكل منه حتى لو مت جوعاً!)، ولكن بعد أن فاحت رائحة الشواء، أخذت تلك الحواجز النفسية بالزوال. بعد أن شبعنا، شعرنا بالعافية مجدداً، وواصلنا المسير ونحن نحمل كمية من ذلك اللحم للوجبة القادمة.

النصير الشيوعي العدد 31 السنة الرابعة شباط 2025