في بداية الشهر التاسع 1979، غادرت اول مجموعة من الانصار الاراضي اللبنانية، متوجهة الى العراق عبر سوريا وتركيا، ثم غادرتها مجموعة ثانية، وبعدها غادرت المجموعة الثالثة التي كنت واحدا منها، وتراوح عدد اعضاء كل مجموعة بين  5 الى 6 رفاق.

طريق العبور الحدودي بين سوريا وتركيا، هو (نصيبين)، ومنه صعدنا بسيارتين، متجهين الى احدى القرى، وبعدها الى قاعدة الانصار في (كوماته) قاطع بهدينان، يساعدنا في قطع تلك المسافات رفاق من حزب (كوك) الكردي التركي.

استغرق الطريق الى القاعدة، حوالي خمس ساعات، كانت مجموعتنا بمسؤولية الشهيد البطل الرفيق هاشم، وهو من اهل بغداد الشواكة، استشهد في بشتاشان. وصلنا الى مقر (كوماته)، بحدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل من يوم 20 او 21 ايلول 1979، فوجدنا رفاقنا في المجموعتين الاولى والثانية قد سبقونا الى المقر، بالاضافة الى وجود ثلاثة رفاق اخرين هم: احمد الجبوري (ابو وليد) مسؤول الموقع، ودنخا البازي (ابو يعقوب) مساعد المسؤول، وكاطع عجلان الساعدي (ابو علي الشايب).

مقر (كوماته)، عبارة عن مغارة صغيرة (شكفته)، بنيت واجهتها ببعض الاحجار، ولا تتسع لاكثر من اربعة اشخاص، اما الوادي، فهو عصيا، ويقع على الحدود مع تركيا، ولا يفصله عنها سوى نهر صغير (روبار) عرضه بحدود اربعة امتار.

الرفاق الذين تواجدوا قبلي في مقر (كوماته)، استطيع ان اتذكر  منهم: (ابو وجدان، ابو يارا، المرحوم ابو شروق، ابو رضية، علي عبد العال، الشهيد ابو سلام، والمرحوم ابو الوجد)، ثم بدأت تتوافد مجاميع الانصار تباعا، كل اسبوع تقريبا.

عندما استيقظت من النوم، في صباح اليوم الثاني، اعتقدت باني سوف ارى عدد كبير من الرفاق ولديهم سلاح كثير كما سمعنا، لكن الامر لم يكن كذلك. كما تبين، ان مقر (كوماته) تابعا للحزب الديمقراطي الكردستاني، وان مسؤولهم هناك هو سيد حميد، الذي كان مساعدا لـ(عيسى سوار)، وهو لا يحب الشيوعيين، لكنه لم يستطع ان يجاهر بكراهيته، لانه مكلف من قيادته بتقديم المساعدة لنا من حيث المواد الغذائية التي راحت تشح يوم بعد يوم، ولم نحصل عليها الا بعد مضي شهر من وجودنا، وهي عبارة عن (طحين وعدس وبرغل).

في اليوم الاول من وصولنا، جمعنا الرفيق احمد الجبوري (ابو وليد) وقال: "رفاقي الاعزاء، نحن اول من تواجد في هذا المكان، وعلينا تقع مسؤولية تهيئة سكن للرفاق القادمين، وسوف نضع اليوم حجر الاساس لبناء اول غرفة، وغدا بعد الفطور الصباحي مباشرة نبدأ العمل".

لم تكن لدينا خبرة في البناء، ولا نملك الادوات والمستلزمات التي يتطلبها العمل، الا 2 فأس (طبر)، والعمل بواسطتها مضنيا، ومن الصعب استخراج الصخور المناسبة للبناء!. كما كنا ننقب عن الطين، لان الارض رملية، والطين مادة اساسية للبناء، فلم نعثر عليه الا على بعد عشرات الامتار، اما نقله الى مكان العمل، فاستخدمنا قمصاننا لذلك، كنا نقلع الحجر باصابعنا واظافرنا. وهكذا بدأنا بالبناء وسط التعب والجوع وشحة الامكانيات. 

من المواقف الطريفة التي اتذكرها، عندما جاء عدد من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني وهم يركضون، اخبرونا بان الجيش والجحوش يتقدمون باتجاه (يك ماله)، وهي قرية تبعد عن (كوماته) بحوالي ساعة تقريبا. اخبرناهم، باننا لا نملك سلاحا، فكيف نواجه التقدم، هل تعطوننا السلاح، فقالوا نعم. انفرجت اساريرنا، حين سمعنا ذلك، فقدم لنا سيد حميد مدفع هاون 60 ملم مع قذيفتين، انهم لا يجيدون استخدامه.

اخذ المدفع الرفيق حميد الموسوي (ابو نغم) ومعه رفيقين اخرين، وذهبوا باتجاه القوات المهاجمة للتصدي لها، لكنهم عندما وصلوا، كانت القوة قد انسحبت من المنطقة.

لغرض بناء غرفة، نحتاج الى جذوع الاشجار، وكان الرفيق ابو يعقوب خبيرا في قطع الجذوع، لكني سرعان ما تعلمت منه هذا العمل، واصبحت فيما بعد خبيرا بتقطيع جذوع الاشجار. عندما اكتمل بناء الغرفة، فرشناها بالحشيش واروراق الاشجار، فلم يكن لدينا اي شيء اخر.

تواصل قدوم  الرفاق الى مقر كوماته، حتى اصبح عددنا بحدود 40 رفيقا، اما السلاح، فوصلت الينا ثلاث غدارات نوع برتا ومداها يشبه مدى المسدس. لكننا فرحنا بها اشد الفرح، واصبحت حراساتنا بالسلاح وليس بالعصي!.

بعد وصول الغدارات الثلاث، قرر الرفاق ان ينقسم العدد الى قسمين، قسم يبقى في كوماته، والقسم الثاني بقيادة الرفيقين ابو يعقوب وابو علي الشايب، يتوجه الى منطقة (كوستا) لفتح مقر فيها. وكوستا تقع في المثلث الحدودوي العراقي الايراني التركي في منطقة سوران.

عندما تحرك الرفاق في يوم 22 او 23 من نوفمبر 1979 باتجاه كوستا، شعرت بالحزن الشديد، فهؤلاء الرفاق الذين عشت معهم في صوفيا وفي لبنان وهنا في مقر كوماته، ولي معهم الكثير من الذكريات الجميلة، هاهم يغادرون المكان، ولا ادري هل التقيهم مرة اخرى ام لا.

استطيع ان اتذكر اسماء بعض الرفاق الذين تحركوا الى (كوستا) وهم الاعزاء: (ابو يارا، وابو وجدان، وابو يوسف، وابو ثائر، والشهيد ابو علي النجار، وعذرا للاخرين، حيث عددهم كان 25 رفيقا.

لا بد لي ان اتذكر بشكل خاص الرفيق الشهيد ابو علي النجار، الذي كان شيوعيا رائعا، بطلا من الابطال الانصار، هو اول نصير حمل رشاش العفاروف. لا اعرف، هل درس الشهيد الفن، ام انه فنان بفطرته؟!، جاء الى (كوماته) ومعه عدة (الحفر) على الخشب، فعمل منه لوحات جميلة جدا. وفي شتاء 1980، حيث الثلج هطل بغزارة، ودرجة الحرارة تحت الصفر، كان ابو علي النجار يعمل تماثيل نصفية لاشخاص بشكل مذهل.

وفي نفس الفترة، تعرضت مفرزة من رفاقنا كانت في مهمة جلب المؤن الغذائية، الى كمين للجندرمة التركية، تفرقت المفرزة اثناء الكمين، ووصل قسم منها الى المقر، لكن الرفيقين ابو جاسم كيشان وخليل ابو شوارب، تاخرا بسبب محاصرتهم من قبل الرصاص، وكذلك كثافة الثلج، حيث فقد الرفيق ابو جاسم حذاءه اثنا الخوض بالثلج فاصيب بالكركنينة، واضطر الرفيق الشهيد د. عادل ان يجري له عملية جراحية (قطع الاصابع المصابة)، على ضوؤ الفانوس!، بواسطة مشرط صغير وقليل من مادة معقمة وبدون مخدر لعدم توفره!. نجح الدكتور في اجراء العملية، وشفي الرفيق ابو جاسم كيشان!.

النصير الشيوعي العدد 31 السنة الرابعة شباط 2025