بعد أن تخلصنا من عبء تسليم (إيوان) إلى أهلها، أصبح هدفنا الأخير هو فك الحصار، والوصول إلى الحدود التركية. من هناك، كان علينا التوجه إلى المثلث الحدودي بين إيران والعراق وتركيا، ثم إلى مقراتنا الخلفية في (ناوزه نك) قرب الحدود الإيرانية.
في ليلة 5 / 6 أيلول، وبموجب اتفاقنا مع الجحوش، انطلقت رحلتنا الأخيرة مع اثنين من الأدلاء، عبر سفح جبل شيرين من الجهة الشمالية. الطريق طويل، ربما يستغرق أكثر من يومين حسب تقديرات الأدلاء. عبرنا قرى قديمة، ويبدو من آثارها، أنها تعود لمسيحيين ويهود. رأينا قببًا لكنائس مهدمة، ورموزا دينية تروي تاريخًا منسيًا.
نال التعب والعطش والضغط النفسي منّا. كنا منهكين، وفي حادثة لا أنساها، غفى الصديق شاخوان وهو يسير متجها نحو حافة صخرية تؤدي إلى وادٍ عميق. قفز إليه الفقيد فراس بحركة بهلوانية وسحبه قبل أن يسقط الى الهاوية.
قرار العفو
بعد مسيرة 13 ساعة، توقفنا للاستراحة، قبل أن نواصل رحلتنا مرة اخرى عند المساء، وخلال هذه الاستراحة استمعت لنشرة الاخبار، عبر صوت المذياع الصغير الذي عثرت عليه اثناء الحصار، واحتفظت به حتى في اصعب الظروف، بما فيها عبورنا لنهر الزاب حيث غطس في الماء!.
كان المذيع يكرر بيانا هاما: بيان العفو الخبيث (العفو عن العصاة والفارين من الخدمة العسكرية من الأكراد). جاء هذا البيان في توقيت حرج، مما زاد من حدة التوتر والانكسار الذي نشعر به. لكننا، ورغم كل العقبات، مصرين على أن نحيا أو نموت بشرف.
التوجه نحو الحدود التركية
مع حلول المساء، تحركنا باتجاه سهل (بەرازگر/ صياد الخنازير). مررنا بمعسكرات الجحوش دون أن يوقفنا أحد. في صباح 8 أيلول، وصلنا إلى الحدود التركية في قرية عراقية تكتظ بمخابرات العالم والجحوش والمهربين. قام الادلاء بتسليمنا إلى المتعاونين معهم في القرية. حاولنا اجتياز الحدود، ولكن علمنا أن هذا مستحيل. اقترح أهل القرية، ان نخفي أسلحتنا، ونسلم انفسنا الى الجندرمة الأتراك كبيشمركة تابعين لحدك، وبعد مفاوضات قصيرة، وافقنا على ذلك.
الأسر في المعسكر التركي
نقلتنا الجندرمة، إلى معسكر قريب من قضاء (گەڤرئ) في مقاطعة هكاري. بعد تسجيل أسمائنا، ومصادرة كل شيء بحوزتنا (ما عدا القليل من النقود)، وضعونا في قاعة عسكرية غير مكتملة، شبابيكها مفتوحة، وأرضيتها من الحصى. ورغم أننا سلمنا أنفسنا، كبيشمركة (حدك)، إلا أن الجندرمة الأتراك لم يصدقونا، واتهمونا بالانتماء لحزب (طاشناق الأرمني)، وحزب العمال الكردستاني التركي (بككه)، ونقلونا إلى مقر (المخابرات التركية)، حيث لم يتعرف علينا أحد من مخبريهم.
استمر التحقيق والتعذيب للبعض منا دون جدوى. كنا نعاني من ظروف غير إنسانية، حتى أن الأتراك كانوا يأخذون منا مصاريف الأكل الذي يأتي به عملاؤهم من الخارج. أضربنا عن الطعام، مطالبين بتنفيذ الاتفاق، ونقلنا إلى الحدود الإيرانية، لكن من دون اذن صاغية!.
الطائرات العراقية
ونحن في هذه الظروف المضطربة، رأينا ثلاث مروحيات عسكرية، ترفع العلم العراقي، وتحلق فوق المعسكر المجاور لمكان اعتقالنا. كنت انا من ضمن الذين شاهدوا هذه المروحيات.
قلت: (انها طائرات عراقية، وانا شاهدت العلم العراقي).
ولكي لا تحدث ضجة، نفى رفيقان كانا من قادة المفرزة، ما قلته، واكدا انه لم يكن هناك علم عراقي. لم تمضي سوى ساعة واحدة، حتى اقلعت المروحيات الثلاث مرة أخرى، فشاهد اكثر الرفاق العلم. عند ذاك، انتاب الجميع، هاجس الخوف من ان تقوم السلطات التركية، بتسليمنا الى النظام العراقي.
الشاحنة والاعتقال
أُجبرونا على الصعود إلى شاحنة نقل مدنية، وطلبوا منا ألا نرفع رؤوسنا. دارت الشاحنة أولاً باتجاه المعسكر المجاور، ثم نحو الطريق العام. بعد أكثر من ساعة، توقفت الشاحنة أمام مخيم (گڤرێ) للاجئين العراقيين الأكراد. رفضنا النزول، مصرين على أن يتم نقلنا إلى الحدود الإيرانية. علمنا من لاجئين في المخيم، أن أهل إيوان موجودون فيه، فطلبنا إبلاغهم (بأن إيوان حية وهي بأمان).
لاجئون في إيران
نقلتنا الشاحنة إلى المثلث الحدودي الإيراني العراقي التركي. وجدنا مئات العوائل والأفراد، الذين ينتظرون (في ظروف جوية قاسية، وفي العراء)، السماح لهم بالدخول إلى إيران. التقينا ايضا بعدد من رفاقنا وعوائلهم هناك.
بعد انتظار دام ثلاثة أيام، سمحت السلطات الإيرانية، بدخول اللاجئين العراقيين الأكراد. نقلونا إلى معسكر (زيوا)، ووزعوا علينا الخيم، ولم يسمحوا لنا السكن داخل القاعات. من معسكر (زيوا)، بدأت رحلة جديدة نحو المجهول. بعضنا لم يتحمل، وسلم نفسه للنظام، أما الأغلبية، فقد لجأوا إلى دول مختلفة حول العالم، بعد رحلة عذاب طويلة، ولكل منهم قصة وحكاية.
هوامش
عرفنا لاحقا، ان المروحيات الثلاثة التي هبطت في المعسكر التركي المجاور لمكان حجزنا، كانت تقل وفدا عراقيا رفيعا يترأسه المقبور طه ياسين رمضان، ووقع مع الحكومة التركية، الاتفاقية الحدودية السيئة الصيت، والتي تعطي الحق للجانب التركي في الدخول الى الأراضي العراقية بعمق 20 كم، تلك الاتفاقية التي لازال يعاني منها العراقيون وخاصة اهل كردستان من اثارها السلبية، حيث تدخل وتعتدي القوات التركية بمناسبة او دونها.............
*بلغني انّ (إيوان) أصبحت أم، وتسكن في فرنسا