سنوات العمر في كردستان العراق، جميلة بالنسبة لي في كثير من الامور، فبرغم الظروف الصحية والمعيشية البدائية الصعبة، وعدم قدرتنا على التواصل مع العالم وتطوراته، الاّ أنها حياة نضال مفعمة بروح التضحية، لأجل المبادئ التي كافح في سبيل تحقيقها، الحزب ورفاقه، وقدموا كوكبة من الشهداء الابطال خلال  مقارعتهم للحكومات المستبدة والظالمة.

وها هو الحزب، بانصاره الابطال، يجوب قمم ووديان كردستان، من شمال الموصل ومناطق دهوك،  إلى السليمانية وأربيل، ويصل الى بعض المناطق من محافظة ديالى.

جمال طبيعة كردستان الخلاب، بتلالها واشجارها وسهولها الخضراء، جعلت حياتنا دافئة ومريحة.  عيون الماء المتدفقة بثورة من الجبال، كانت تروينا، وتروي عطش اهلها ومريديها. حياة الناس الفقراء، بمودتهم وأحترامهم للأنصار والبيشمركه، وبما يقدموه من مساعدة لسد حاجتنا من المأوى والطعام وحيوانات النقل، والعلاقة الطيبة بيننا وبين اهل القرى المبنية على اساس الاحترام والتضامن، كل ذلك كان دافعا لنا في الاستمرار في النضال من اجلهم ومن اجل عموم شعبنا وبلدنا.

لا يمكن وصف العائلة التي تقدم كل ما تملك من طعام لضيوفها، وتحرم اطفالها أحيانا، من وجبة اكل، لكي تقدمه الى انسان غريب حلّ عليهم ضيفا في وقت صعب. مهما نقول، فهي تضحية لا توصف، من قبل ناس تعلموا منذ (ثورة ايلول) في ستينيات القرن الماضي، على هذه الحياة، وأصبحت جزءا من طباعهم الثورية، وأخلاقهم الاجتماعية، وتعاملهم مع الثوار المقاتلين. ان شيمة الكرد، معروفة في أطعام الغريب، فكيف إذا كان القادمون، وقد جاءوا لكي يناضلوا من أجل الخير لهم، والدفاع عن حقهم.

الكثير من الاهالي (بالرغم من بساطتهم)، يفهمون ما يجري (وهي طايرة كما يقولون)، فعند لقاءنا  بكبار السن، وجدناهم يميزون بشكل وأضح، بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا مثلا!. يقولون ((كيف صاحبكم، ويقصدون الاتحاد السوفيتي، يساعد الحكومة ويساعدكم (شنو طلقة لكم وطلقه للنظام)، وغيرها من التعليقات)).

كنا إذا نزلنا الى منطقة (نيروه)، يسألنا الناس، ولأكثر من مرة، عن حلف (وارشو) ودوره الان!. والسؤال يُطرح دائما، على الرفيق (ابو نهران)، خاصة عندما تنزل مفرزة الشبيبة للمنطقة، وتقيم  المحاضرات والندوات للمواطنين.

الناس، وبالرغم من بساطة حياتهم، لديهم افكارهم وارائهم الخاصة في هذه القضية او تلك، ولهم مواقف خاصة في هذا الصراع أو الكفاح الدائر في العراق. لكن مع ذلك، فاننا وجدنا فيهم العون والالفة والدعم، فهم ثائرون ضد الاقطاعيين وضد الاغوات الذين يستغلونهم.

هذه الحياة، علمتنا الكثير من الصبر والتحمل والقدرة على المجابهة، كما علمتنا الشجاعة والبساطة ومشاركة الاهالي عاداتهم وتقاليدهم، حيث شاركت شخصيا، ولأكثر من مرة، في احتفالات الأعراس التي تقام في منطقة (نيره) في قرية (كاني ساركي). كنا نشاركهم إطلاق الرصاص بالكلاشنكوف، وهو تعبير عن الفرح والبهجة، كما كنا نشاركهم أحزانهم أيضا، ونحترم عاداتهم بعدم دخول الانصار الى  المقابر.

هناك الكثير من المواقف الجميلة والشيم الابية، التي يتحلى بها سكان المناطق التي عشنا بينهم، نساء ورجالا، اطفالا وشبابا وشيوخا، حياتنا تداخلت مع بعضها، الى درجة ان الكثير من الانصار تزوج من بناتهم، متجاوزين بذلك كل النعرات العرقية والدينية والمذهبية.

كنت والرفاق (ازاد، وسلام تحياتي)، نذهب إلى قرى (نيروه)، للزيارة، أو لشراء بعض الحاجيات. لن أنسى، كيف كان الناس يقدمون كيس التتن (التبغ)، لكي ندخن سكائر (اللف)، وأحيانا يقومون بلف السكارة وتقديمها جاهزة.

كان الرفيق الراحل (سلام تحياتي)، لا يستسيغ سكائر (اللف)، خاصة عندما تكون لديه نقود، فاخرج من جيبه علبة سكائر (سمسون)، فانهالوا عليه بعبارة (شقه نبه، شقه نبه)، يعني لا تكلف نفسك، فاضطر (سلام تحياتي) لتوزيع نصف علبة سكائر السمسون على الحاضرين، وكان آزاد يضحك متشفيا!، حيث كانن لديه علبة سكائر ايضا، لكنه لم يستخدمها في ذلك الوقت، وانما استخدم كيس التبغ، الذي امتلأ بتبغ صاحب البيت والاخرين حيث عادة اهل القرى بان يعطون الضيف المزيد من التبغ.

النصير الشيوعي العدد 31 السنة الرابعة شباط 2025