كثيرًا ما تحتاج مفارزنا الأنصارية، أثناء تنقلها من مكان إلى آخر إلى استخدام العبّارة (الكلَك) لعبور الأنهار العميقة والسريعة الجريان. يحصل ذلك بوجه خاص، خلال فصلي الربيع والشتاء، حيث تنهمر الامطار بغزارة، وتذوب الثلوج التي تغطي القمم الشاهقة لتملأ الأنهار والوديان.
بعض مفارز الأنصار (مفرزة الطريق مثلا)، بسبب من طبيعة مهامها، تحتفظ بـ(الكلك) الخاص بها، اما المفارز الاخرى، فيعتمد الانصار في عبورهم، على مساعدة أهالي القرى الواقعة بالقرب من ضفاف الأنهار. واحيانا يضطر الأنصار لاستخدام (كلك) القرية بأنفسهم، خاصة اثناء الليل بعد عبور الشوارع التي تنتشر بقربها الربايا. يستخدم الانصار (الكلَك) الذي يخبأه القرويون بعد انتهاء أعمالهم الزراعية وتنقلاتهم الاخرى، ولكن عبور الأنهار بواسطة (الكلَك)، لم يكن دائمًا مهمة سهلة، خاصةً الانهار التي يشكل جريانها تيارا جارفا، وليس فيها منافذ كثيرة للعبور. وما يزيد العملية صعوبة، ويجعل منها مهمة خطيرة، هي: الظروف الجوية الباردة، وعدم وجود رفاق يجيدون السباحة بمهارة، وقلة خبرة استخدام المجذاف. وفي هذا الصدد، اود ان اذكر حادثتين حصلتا معنا اثناء عبور الانهار واستخدام (الكلك)، متمنيا من رفاقي الانصار، تناول هذا الموضوع المهم، والكتابة عنه.
الحادثة الاولى في نهاية عام 1980
عندما وصلت الى مقر سرية (هيركي)، وهي المحطة الأولى في طريق انتقالي من وادي (كوماته) الى مقر (نوكان) او (ناوزنك)، إلتقيت بالعديد من الرفاق الذين سبق لي وان عملت معهم، أو الذين تعرفت عليهم في مقر (كوماته) وانتقلوا الى سرية (هيركي). وبعد بضعة أيام من وجودي بينهم، تقرر قيامهم بجولة في مناطق ناحية (ديرلوك) التابعة لقضاء عقرة. وخلال تجوال المفرزة في المنطقة، كان عليها في اليوم الثالث عبور نهر متفرع عن (الزاب الكبير)، الذي يمر وسط معسكر الناحية. عبرت المفرزة الشارع الرئيسي اثناء الظلام، متخطية بحذر الربايا المنتشرة على جانبه، ومتسللة عبر البساتين، متوجهة الى نقطة عبور النهر، ثم الى القرية المقصودة والمعروفة لرفاقنا. كان الطقس باردًا ومثلجًا، والنهر عميقًا، وتياره سريعا، وينحدر بأتجاه معسكر فوج (ديرلوك). بدأ بعض الانصار، بأطلاق صفير خافت (هذا ما متعارف عليه هناك)، وهو عبارة عن نداء لأهل القرى طلبا للمساعدة، ولكن لا أحد يسمع، بسبب نوم القرويين المبكر والبرد الشديد.
اضطر الأنصار للبحث عن (كلك) القرية بين الأشجار، فوجدوه مع المجذاف وجلبوه الى نقطة العبور. وبعد مداولات عمن يمكنه التجذيف، اقترحت ان يقوم الرفيق (أبو أفكار) الذي أصبح لاحقا أحد أنصار مفرزة الطريق، بالتجذيف، خاصة كونه من اهل العمارة، وربما استخدم في حياته (البلم والمجذاف)، فوافق النصير (أبو أفكار)، بالرغم من مرضه في ذلك الوقت.
كنت من بين رفاق الوجبة الأولى في العبور، ولا اتذكر منهم سوى الرفيق النصير حمزة عبد (ابو حيدر). ركبنا (الكلك)، وبدأ (أبو أفكار) بدفعه بقوة بمساعدة المجذاف نحو الجانب الاخر من النهر. في منتصف الطريق، تعذر على (أبو أفكار) الاستمرار، وطلب المساعدة، وبسرعة وضعت سلاحي على (الكلك)، وأبقيت حقيبتي معلقة في رقبتي، ونزلت في الماء، وبدأت بسحب (الكلك) والسباحة عكس التيار، حتى وصلنا الى الجرف، ونجونا في الوقت المناسب. عبرت الوجبة الأولى بسلام، وذهب أحد الأنصار ليأتي بأحد القرويين لمساعدتنا في عبور الوجبات الاخرى. في هذه الاثناء، اوقدوا لي النار، وجففت ملابسي و(عليجتي) التي امتلأت بالماء. وعندما اكتمل عبور الرفاق، ذهبنا الى القرية المعنية، واخذنا قسطا ضروريا من الراحة. ثم واصلنا حركتنا التي استمرت لمدة شهر تقريبا، قبل ان نعود لمقر سرية (هيركي)، وبعدها بأيام التحقت بمفرزة بريد قادمة من (كوماته) ومتجهة الى مقر (نوكان).
الحادثة الثانية مع (الكلك)
في نهاية حزيران عام 1987 كنت اشعر بصعوبة التنفس، كما أني فاقد للبصر، بسبب اصابتي بالأسلحة الكيمياوية اثناء الهجوم الذي شنته طائرات النظام الفاشي على قوات الانصار في وادي (زيوه)/ قاطع بهدينان في 5 حزيران عام 1987. وعندما تقرر توزيع بعض الأنصار المصابين على القواطع، لتسهيل عملية علاجهم، وتخفيف الضغط على الأطباء الموجودين في مقر (الدوشكا) والادوية القليلة، اقترحت ان اعود الى قاطع السليمانية، حيث عملت هناك في التنظيم المدني أواخر عام 1981.
غادرت مقر (زيوة) مع مفرزة متوجهة الى مقر (كافية)، وفيه امضيت عدة أيام، ثم ذهبت مع مفرزة بريد كبيرة متوجهة الى مقرات أربيل والسليمانية ومنها مقر (قره داغ)، ويقودها الرفيق (أبو دلشاد). بدأنا بالتنقل من قرية الى أخرى حتى وصلنا في وقت متأخر الى نهر الزاب الكبير على اطراف مدينة عقرة حيث تنتشر العديد من سرايا وافواج الجحوش والمتعاونين مع النظام الفاشي، تحاور الانصار حول طريقة عبور النهر، فالمفرزة كبيرة، ومعها 4 بغال محملة، لكن من حسن حظنا، عثرت المفرزة بين الادغال على (جوب تاير كبير عدد 3)، قام البعض بتقطيع اغصان الاشجار بواسطة (التورداس عدد 2) الذي بحوزة المفرزة، ونفخوا (الاطارات)، ثم ربطوها مع بعضها، وبالرغم من اني شبه اعمى تقريبا، ومنهكا جراء الإصابة بالكيماوي، الاّ اني تطوعت لقيادة (الكلك) وبدأت رحلتنا العجيبة، حيث تيار النهر جارفا وسريعا جدا. صعد الى (الكلك) 5 أنصار، بالإضافة الى جزء من حمولة البغال. أحد الرفاق الجالسين، يسحب البغل بواسطة الحبل، اما أنا، فكنت اعوم في مقدمة (الكلك) واسحبه بقوة الى الامام، لكن التيار يأخذنا الى جهة اليمين بعيدا عن نقطة العبور، فيصرخ الرفاق: (يسرة.. يسرة). كانت المهمة صعبة ومنهكة، لكننا وصلنا. افرغنا الحمولة، وعدت بـ(الكلك) مع أحد الأنصار، وواصلنا رحلة العبور الثانية والثالثة. كان مع المفرزة الرفيق الطيب ابو سميح، وبالرغم من مرضه في ذلك الوقت، لكنه قام بالسباحة وسحب (الكلك) وانا معه اردد: (يسرة يسرة) حتى اتممنا عبور الوجبة الرابعة والخامسة بسلام. وتمكنت إدارة المفرزة بعد فترة من القلق والتوتر من إعادة تنظيم المفرزة وواصلت حركتها. كان انضباط الرفاق وحرصهم على سلامة المفرزة عاليا جدا، كما ان ثقتهم بقيادة وادارة الرفيق ابو دلشاد كانت كبيرة. وصلنا الى المناطق الاكثر امنا، ورحنا نتنقل من مقر الى اخر، ومن مفرزة الى اخرى حتى وصلت الى مقر (قره داغ)، ومنه بدأت محطتي الجديدة والهامة مع رفاقي في كرميان مع الفوج الرابع
وفي ختام هذه الاسطر القليلة، ادعوا رفاقي الانصار الذين عاشوا احداثها، الى التصويب والتدقيق والاضافة مع الاعتزاز.