الشتاءات شديدة البرودة، والطرق الجبلية المؤدية من ساحة معركة إلى أخرى، مليئة بجثث الموتى والمحتضرين. الثلج الابيض تلونه الدماء!. قتل، اغتصاب، اطلاق رصاص، سجناء، نار في كل مكان، صراخ جنود وضباط بعثيين يتحركون مثل أسراب من الحشرات عبر الوديان. صفوف طويلة من سيارات الجيب والمدرعات والشاحنات المحملة بالجند والأسلحة. ضوضاء غير مألوفة تنطلق من المحركات. الناس ينظرون من مخابئهم الى منازلهم وهي تحترق وتتهدم.
هذا بعض مما رواه لنا العديد من اهالي القرى والبلدات المنكوبة الذين رفضوا هذه الحرب، والذين رأوا أنفسهم يُقتلون بدون رحمة أو سبب، فخرجوا مع نسائهم واطفالهم للدفاع عن منازلهم واراضيهم، وكانوا بسبب ما تعرضوا له من موت همجي، أكثر شراسة في التصدي لاعدائهم، وعوضوا عن هزائمهم وافتقارهم للأسلحة، بالتطوع بكثرة في صفوف البيشمة ركة من مختلف الأحزاب، لمقاومة جيش البعثيين ومخابراتهم وجحوشهم.
لم يستسلموا، بل بدأوا يمارسون الانتقام والمقاومة بمختلف الطرق والوسائل، لقد طاردوا العدو بنفس المكر والمثابرة التي استخدموها في صيد الخنازير البرية او الذئاب التي هاجمت قطعانهم. وعندما لم يكن معهم بنادق، استخدموا مذراة وسكاكين، وقد ارادوا اخصاء وقتل الجنود الذين اغتصبوا نسائهم وقتلوا الأبرياء ومثّلوا بجثثهم، فبمجرد أن جرَّدَ البعثيون جثة بشرية من غطائها من الملابس، عاقبوها أكثر بقطع أطرافها، وعلقوا الجثث المشوهة بين أغصان الأشجار كتحذير للآخرين. هذا ما فعلوه بجثة رفيقنا الخالد الشهيد فؤاد (توما كليانا بهنان) من قاعدة (گوستا)، عندما استشهد وهو يقاوم ارهابهم، حيث ربطوه بسيارة عسكرية، وطافوا به حول القرية وامام الفلاحين العُزَّل، ثم تركوا اوصال ذلك الجسد الثائر مقطعا ومرميا في كل مكان، لقد ارعبهم في حياته وموته، فانتقم الجبناء من جثته.
كان الشهيد فؤاد ومعه الشهيد أبو سلام (رحيم عودة)، يقاومان في نفس المعركة يوم (10 ايار 1980). ولمّا نفذ عتاد الشهيد فؤاد وهو مصاب بجروح بليغة، فجّر على نفسه قنبلة يدوية (رمانة) احتفظ بها كآخر ذخيرة، تلافيا للوقوع أسيرا في الايادي الجبانة، وهو ما أكد عليه وهو في عمر عشرين سنة، كما كتب الرفيق كاميران (سعيد شابو) في مقالته عن الشهيد، بينما وقع الرفيق (أبو سلام) الجريح بالأسر بعد نفاذ عتاده ايضا، وربما لأنه لم يكن يمتلك رمانة أخيرة، فاستشهد لاحقاً في احد زنازين سجن الموصل، وترك رسالة مؤثرة الى الرفاق، نشرت في صحافة الحزب بعد استشهاده مباشرة.
لم ألتقي بالشهيد فؤاد، فقد وصلت الى (گوستا) بعد اربعة شهور من استشهاده المؤلم. جميع من عرفه وعمل معه، تحدث عنه بإعجاب كبير، حتى اصبح بريقه مثلا ملهما لرفاقه، وخاصة اولئك الذين عرفوه وعملوا معه عن قرب، ومنهم الشهيد (ملازم كارزان) وهو ابن الشهيد (بيا صليوة)، فقد كان يحرص على حمل (رمانة) معه دائما، وعندما تسأله لماذا؟ سيذكر لك بطولة صديقه الشهيد فؤاد. بعد سبعة سنوات، واجه رفيقي وصديقي الفنان أبو ايار (فؤاد يلدا)، نفس المأساة، عندما جُرح واختار نفس الدرب، ولكن بطريقة مختلفة، فاستشهد برصاصة بدلا من الرمانة، صوبها الى حنجرته، انهت حياته على الفور.
ولهذا، فليس من المستغرب أن يتحدث كل من جاء الى هذه الجبال وهذا المكان، عن الذي رأوه، حيث وقفت البيوت القديمة المهدمة والمحروقة، كشاهد صامت على جرائم البعثيين المروعة، والتغييرات والكوارث التي احدثتها، جنباً إلى جنب مع حرائق الغابات والمزارع والمقابر المنتشرة في كل مكان. فضحايا كل هجوم بربري جديد، يعطي الناس المعذبين بريقًا واملاً للمقاومة في ضمائرهم ونفوسهم لا يمحى، وكأنه نابع من هشاشة أجساد الشهداء نفسها واوصالها المقطعة.