في أيار عام 1978، تم استدعائي لخدمة الاحتياط في الجيش، فتحولت صلتي الحزبية الى صلة فردية بسبب الحظر الذي فرضه البعثيون على عمل الشيوعيين في الجيش. في هذا الوقت، شنّت اجهزة النظام البعثي حملتها الوحشية ضد منظمات الحزب الشيوعي العراقي، وبدأت الاعتقالات في محافظة نينوى، وبشكل خاص في سنجار.
بعد إلتحاقي بالخدمة العسكرية مباشرة، تم نقلي الى معسكر قاطع أربيل، ثم إلى مقر لواء شقلاوة مع صديق الطفولة الفقيد جوقي نزام ومجموعة من الجنود الآخرين من مواليد عام 1952.
يقوم اللواء الذي يقع مقره في بداية المدينة بحماية المنطقة بما فيها ((مدينة شقلاوة، وده شت حرير، ونازلين، وجبل سفين)). في اليوم الثاني من وصولنا الى المعسكر، تجمعنا في ساحة العرضات بهدف توزيعنا على المواقع والربايا العسكرية هناك. بدأ آمر اللواء يتحدث عن مهمات الجيش وواجبات الجنود في الدفاع عن الوطن، وخاطبنا كجنود سابقين ومدربين قائلا: " لذلك سنعتمد على خبراتكم في تنفيذ تلك المهام ".
بعد ذلك جاء دور ضابط التوجيه السياسي، وطلب من الجنود الغير منتمين إلى حزب البعث، ان يرفعوا اياديهم!، فامتثل للامر 15 جنديا وانا من بينهم، لكنّ صديقي الفقيد جوقي وبخني على ما قمت به، محذرا بانهم سيخلقون لي المشاكل، فهو ينتمي الى حزب البعث بدرجة نصير، ويدرك خطورة الوضع ومطلع على خفايا الامور.
نظر ضابط التوجيه السياسي لنا قائلا باستغراب: من غير المعقول ان هذا العدد لم ينتمِ لحزب البعث لحد الان!، ثم اردف: أين كنتم، ولماذا لا تكونوا بعثيين، ومع من تعملون إذن ..؟!، أجبنا: نحن مستقلون، فقال: (انجبوا ماكو مستقلين)، ثم اجبرونا على كتابة عناويننا للاستفسار عنا في مناطقنا، فجاء صديقي جوقي ليعاتبني مرة اخرى متسائلا: ألم انبهك ان لا تقول مستقلا؟!.
امر الضابط بارسال وتوزيع المستقلين على ربايا قمة جبل سفين، قائلا: هذا مكانكم الى حين التأكد من انتمائاتكم الحزبية. توزعنا على ربايا الجبل البعيدة عن المعسكر، وجرى تسفيرنا إلى مقر السرية الذي كان يقع في بداية السلسلة الجبلية بواسطة السيارات، ومن هناك سيرا على الاقدام لمدة ساعتين حتى وصلنا إلى آخر ربيئة في جبل سفين، وكان الطريق اليها عبارة عن ممر وعر جدا، لا يمكن قطعه الا بواسطة البغال او المشي.
قبل التحرك من مقرالسرية، ولحسن حظي، تمت إعادة صديقي الفقيد جوقي نزام الذي كان يعاني من مرض الكلية، الى قلم سرية الفوج، فاتفقنا قبل ان نفترق على أهمية اشعاري في حالة وجود أي خطر يهدد حياتي. وعدني بان يقوم باتلاف اية تقارير تصل الى وحدتي وتحمل معلومات خطيرة عني.
انتقلت الى الربيئة البعيدة، وبقيت فيها حتى تسريحي من خدمة الاحتياط مع رئيس عرفاء من أهالي الناصرية و 12 جنديا كانوا من المستقلين أيضا، أو أدعوا مثلي بأنهم كذلك.
في هذه الاثناء، وصلت (اضبارتي) إلى قلم الفوج، وفيها معلومات من منظمة القوش لحزب البعث تؤكد علاقتي بالحزب الشيوعي العراقي ونشاطي السياسي والتنظيمي ضمن صفوفه. هذا ما نقله لي صديقي الفقيد جوقي خلال لقاء نظمه معي بعد ان أتصل بي تلفونيا، أدعى فيه بأنه مريض، وأنا بدوري طلبت من رئيس العرفاء إجازة مؤقتة، وأكد جوقي بأنه قام بتمزيق التقرير دون تسليمه إلى الجهات المعنية، وبذلك كان له الدور الاكبر بعدم كشف علاقتي بالحزب الشيوعي العراقي.
اشتدت واتسعت وتيرة حملة البعث القمعية ضد أعضاء ومنظات الحزب حتى شملت قرانا مثل: (ختارة ودوغات وسريجكا وغيرها من القرى) التي تنشط فيها منظماتنا.
قبل ان انهي خدمتي بفترة قصيرة، كنت في إجازة لدى عائلتي في (ختارة)، وكانت صلتي الحزبية في ذلك الحين بالرفيق خديدة حسين (أبو داود) الذي كان سكرتيرا للجنة قضاء (تلكيف). في أول لقاء معه، طرحت عليه فكرة تسليم الربيئة التي أخدم فيها بكامل معداتها من السلاح والعتاد والمدفع إلى الرفاق في مدينة شقلاوة بعد التنسيق معهم، لكن الرفيق أبو داود رفض المقترح، معللا ذلك بعدم وضوح موقف الحزب من العلاقة مع البعث...
في نهاية تشرين الثاني من عام 1978 أنهيت خدمة الاحتياط، وكانت حملة الاعتقالات في ذروتها. بعد عودتي إلى قريتي بيومين، وكنت أنوي الذهاب الى دائرة تجنيد (تلكيف) لاثبات تسريحي واستلام أوراق التسريح ودفتر الخدمة العسكرية، استلمت توجيها حزبيا بضرورة التخفي عن الأنظار.
اختفيت والرفيق أبو داود، لكننا استغلينا الوقت وقمنا بربط شبكة كهرباء بيوتنا، حيث قامت الجهات الحكومية المعنية ولاول مرة في تاريخها، بربط وتمديد شبكة كهرباء قرية (ختارة). في أجواء الاختفاء والعمل السري والدعوات المتخاذلة للاستسلام وتقديم البراءة من الحزب، توجهنا ليلا لحضور اجتماع مخطط له مع الرفاق، وفيه تقرر الاختفاء في هضبة (كند) قرى (ختارة ودوغات وسريشكه) إلى حين معرفة وجهة الحزب.
مع نهاية عام 1978، راح عددنا في (كند)، بعد أن كان في البداية محدودا ويشمل كوادر (ختارة) فقط، يزداد اكثر واكثر، ومن بين المتواجدين: ((ابو داود، توفيق ختاري، سلو جندي والد الرفيق (ابو حربي)، واشقاء ناظم ختاري الراحلين: درويش وألياس وعلي، بالاضافة الى عمه الفقيد (شيخ شمدين)، ومجموعة من قرية (دوغات) من بينهم: ابو ماجد (علي خليل)، ابو فؤاد (جوقي سعدون)، ابو عادل، أبو ليلى، خديدة أسمر، كورو عرب، عبدال مراد، وعدد اخر لا اتذكر اسمائهم. ومن قرية (سريجكا)، مجموعة بقيادة خلف عساف وخدر شيبو وآخرين، بالاضافة الى مجموعة من الطلبة والشباب الناشطين من ختارة ودوغات، وهم: ناظم ختاري، سعيد دوغاتي، هادي دوغاتي، حيث يقومون بمهمة تزويدنا بالمعلومات والاكل والماء. وهكذا اقترب عددنا من الثلاثين شيوعيا.
في الايام الاولى من الاختفاء انسحب والد ابو حربي (سلو جندي) بسبب ضغط العائلة عليه وبشكل خاص شقيقه واقناعه بتسليم نفسه. وفي نفس الفترة إلتحق بنا رفاق آخرين من ضمنهم خليل جندي وبير الياس من مدينة الشيخان، حتى أصبح عددنا حوالي 40 شخصا، وليس معنا سوى قطعتي سلاح وعدد قليل من المسدسات ندافع بها عن أنفسنا.
انتشر خبر اختفائنا بين الناس، لكنهم لا يعرفون الكثير عنّا، مع العلم ان (الكند) يحتوي على مخابئ طبيعية عديدة غير مكشوفة وغير مكتشفة وتتسع لاكثر من 200 شخصا، وهي عبارة عن انفاق تحت الارض، حفرتها مياه الأمطارعلى مرّ الزمن، ويتعذر على السلطات الأمنية الوصول إليها. استفدنا منها كثيرا في فترة عملنا الانصاري والتنظيمي، وتحول العديد منها الى منطلق للتواصل مع منظمات الحزب في مختلف مدن العراق، وذلك عبر تسلل الكوادر الحزبية من خلالها إلى الداخل، بالاضافة الى الاستفادة منها اثناء عمليات الانفال 1988 والانتقال منها الى سوريا عبر منطقة سنجار.
كان عدد كبير منا، يختفي في نفق تحت الأرض في (كندى ختارى)، ويسمى محليا (خفس النيسو)، الذي كانت معاناتنا فيه كبيرة من كل النواحي. بدأنا نشعر بالمخاطر بسبب طول فترة الاختفاء، فقد كان من الممكن أن تقوم قوى الأمن باقتحام مخابئنا. في احد الايام وقبل غروب الشمس، أختفي خليل جندي من بيننا، ما دفع أبو ماجد لاتخاذ قرار الانتقال إلى (كند دوغات) لتجنب أية مخاطر تنجم عن أختفاءه، وفي طريقنا إلى هناك، تعرض عدد من الرفاق إلى الإرهاق والأعياء الشديدين، لكننا وصلنا الى مخبأ آخر في (هضبة دوغات)، حيث جرى تكليفي وألياس بمتابعة أخبار شيخ خليل في (ختارة)، فحصلنا على معلومات، انه ذهب لتسليم نفسه إلى السلطات.
رغم البرد الذي راح يداهمنا، خاصة اثناء الليل، حيث الانفاق تحتفظ بالرطوبة التي تتحول الى برودة شديدة ليلا، فان عددنا استمر بالتزايد، واصبحنا امام مشكلة كبيرة اخرى، وهي توفير الأكل ومياه الشرب والحاجات الضرورية الاخرى، لذلك كنا نضغط على الرفاق أبو ماجد وأبو فؤاد وأبو داود بأهمية اللقاء بالرفيق أبو جوزيف (توما توماس) لإيجاد مخرج لموضوع تجمعنا وضرورة اتخاذ قرار للتوجه الى جبال كردستان في أسرع وقت ممكن.