في يوم 5-6-1988 الذكرى الأولى للقصف الكيمياوي قبل الغداء بقليل وصلت مجموعة من ثلاثة رفاق مسلحين وامرأة ترتدي الملابس الكردية الفضفاضة قادمين من الفوج الأول، المرأة الجميلة كانت صامتة واجمة حزينة ترمقنا بشجن وفي عينيها ألم ولوعة وسؤال، لم أتّعَرَفْ عليها للوهلة الأولى، لكني تذكرتها قبل أن يفصح أحد الرفاق القادمين قائلاً:
- أم فؤاد جاءت تزور قبر زوجها!
شعرتُ بأسى لا يوصف وحزن دفين وعميق، كم تخيلت لوعتها قبل عام، كانت تنتظر وأطفالها الزوج الراجع بعد غياب عام قضاه في إيران للعلاج من محاولة اغتيال بالسّم، لكنه قضى في القصف بغازات الكيمياء في مثل هذا اليوم ودفن هنا. اعتذروا عن تناول الغداء معنا قائلين:
- لازم نرجع للفوج قبل الظلام!
كان الجو مربكاً، حزيناً، يخشى مواصلة الكلام إلى أن قالت بصوتٍ مرتجف:
- أين قبره؟
- ...
لم يجب أحدٌ، ظلَّ الرفاق يحملقون بوجوه بعضٍ بصمت، كررتْ السؤال بصوت يقطر ألماً وأضافت بالكردية:
- أخذوني له!
- ...
كسرتُ الصمت وقلت لها:
- "أم فؤاد" تعالي معي!
وَسحبتها من ذراعها، فانقادت بيسر، قطعنا حقلاً صغيراً ونزلنا على منحدرٍ من عدة أمتار يفضي إلى فسحة مستوية دُفِنَ فيها الرفيقان "أبو رزگار" وزوجها، قدتها نحو القبرين كان عليهما باقات زهور نقطفها من الحقول بين آونة وأخرى، أشرت نحو قبره، كنت أقف جوارها، بدأت بالتمتمة غير المفهومة لدقيقتين ثم هوت على ركبتيها جوار تراب القبر والزهور، كنت أشعر بقتامة وكآبة مشهد زوجة فقدت أعز وأحب الناس إليها، خطفه بغتة هازم اللذات ومفرق الجماعات. كنت أتجلد بعناء وهي تهيل التراب على رأسها نادبةً بصوت شجي، حزين، خافت يكاد لا يسمع، يفطر القلب، تناديه وكأنه مازال حياً، تتغزل وتقص وتنوح وتغني، وتخبره بما جرى لها والأطفال بعده، تصورتُ نفسي بمكانها فكدتُ انفجر بالنحيب، لكن تماسكت، مسحتُ دموعي التي تفجرت بصمتٍ رغماً عني. كانت الشمس ساطعة والسماء زرقاء صافية، والطيور تهدل على الأشجار، وهدير مجرى "الزاب" يختلط بنحيب الأرملة المفجوعة، حينها شعرتُ بحتمية الموت وسط طبيعة ستبقى خالدة بجمالها غير أبهة بأوجاعنا ومصائبنا نحن البشر المساكين.
كنت أسمع نحيب الرفاق الواقفين خلفها على بعد أمتار وَالمطلين من تلة الفصيل، كانت تقبض بكفها المضمومة حفنة من تراب القبر تكلمها بحرقة وَتهيلها على عصابة رأسها وكأنها تريد أن تخلقه وتعيده من العدم.
وتعود تقبض من جديد على حفنة أخرى تكلمها بعتب وَتهيلها، تخيلتها تراه في التراب تمسك يديه تقبل جبهته تشم رائحته وتعانقه في الحفنة النازلة من أم الرأس إلى حضنها مجسّدةً أشواق الأرملة المستحيلة بملامسة جسدٍ حميمٍ حُرِمَتْ منه إلى الأبد. نامت على طولها حاضنة تربة القبر، وخفت همسها وهي تلامس بشفتيها ذرات التراب.
- هل كانت تبثه أشواقها؟
- هل تسمعه يكلمها؟
تخيلت ذلك وأنا أراها تسكت وتتسمع وتعاود الهمس. يا إلهي أي حزنٍ وخسارة في فقدان زوجٍ حبيب؟ تساءلت وتفقدت موضع وقوف زوجي مطلاً على مكان القبرين. وَجّعتْ لي قلبي وجعاً لم أعرفه سابقاً في حياتي المدنية قبل التحاقي، إذ لم أحضر أية مراسيم عزاء:
- يا ألهى أي حزن وقهر يحل بالمرأة التي تفقد شريك حياتها؟
اقتربت منها، جلست جوارها، لتوها فرغت من نوبة صراخ مجنون، أُطيب خاطرها بجميل الكلمات عن الصبر، سحبتها فجلستْ، ثم أحطت بخصرها وساعدتها على النهوض، كانت منهكة تماماً في مواجهة الموت الذي خطف في غفلة شريك حياتها وسندها في الحياة.
المشهد ذاك جَسّدَ لي معاناة العائلة البسيطة التي لا ذنب لها، لكنها تتحمل تبعات خيار أحد أفرادها موقفاً مناهضاً لِسلطة الدكتاتور، وأي ثمن باهظ تدفعهُ، تهجير وتشريد من مدنهم وبيوتهم كباراً وصغاراً، نساء وأطفال، شيوخ وعجائز طاعنين في السن إلى أماكن الثوار الخطرة وسط حومة الحرب المشتعلة.
من رواية- العيش على الصراط- الصادرة عن دار ابجد للترجمة والنشر- 2024