كان الرفيق بهاء ضمن مجموعتنا، المجموعة الاولى القادمة من براغ الى دمشق للعبور إلى العراق للإلتحاق بحركة الكفاح المسلح للحزب الشيوعي العراقي، كان عددنا عشرة رفاق، حسبما أذكر. في يوم 11 أيلول 1982 جاء يودعنا عند محطة حافلات النقل المتوجهة من دمشق الى القامشلي.
عرفته منذ كنت في الدراسة الجامعية في بغداد، كانت تربطنا هناك فقط التحية. فيما بعد و عندما أصبحنا اصدقاء حيث عشنا في نفس القسم الداخلي لكورس اللغة التشيكية تعرفت عليه اكثر، كان شاب فرح و الابتسامة لا تفارق وجهه، يمزح مع الجميع. عندما كان يناقش يحرك رأسه بإنفعال وحركة حاجبيه ترافق كلامه بإيقاع منسجم مع الكلمات.
كان على وشك أن يتقدم لخطبة زميلة له في الجامعة تربطه بها علاقة حب، لانها صديقتي كنت اعرف بعض هذه التفاصيل. لقد ترافق ذلك مع اجواء الحملة ضد الشيوعيين وكل اليساريين في الجامعة، مما اضطره على ترك دراسته في الاقتصاد مجبرا، وغادر العراق الى براغ بشكل سريع، أما هي فَلَمْ تستطع اللحاق به لظروف اجتماعية. ترك ذلك ألماً لكلا الطرفين وبقيا يحبا بعضهما. تواصلا من خلال الرسائل لفترة وبعدها انقطعت المراسلة بينهما، فليس من السهل عليها في ظرف كذاك ان تراسل شخص شيوعي يقيم في احدى البلدان الاشتراكية، وهي نفسها كانت معرّضة للضغوط. ارفقت في احدى رسائلها له صورتها، صورة هوية صغيرة، بقت هذه الصورة معلقة في غرفته طيلة سنوات وجوده في براغ، بعد ان طبعها بحجم A4، وبقى يتحدث بشوق عنها. كلما كنت في زيارة لسكن طلبة الاقتصاد في براغ كنت أزوره و ارى صورتها وهي تجمّل احد جدران غرفته، و افكر بقلق و الألم يعتصر قلبي (تُري ما الذي حلَّ بكِ يا صديقتي؟؟).
اكتب عن هذا الجانب من حياته لأقول ان الانصار الپيشمرگه كانوا ناس عاديين، يحبون ويتألمون ويُخلصون، ويرغبون ان يستقروا في حياة عائلية كحال البشر الاخرين.
كنت اعزّه جدا، صُحبة خالية من التعقيد، اتصرف معه كأخ ثاني لي في الغربة. كان نقي وصافي النفس وكما يقولون "اللي بگلبه على لسانه".
بسبب آلام في الكليتين ولغرض اجراء بعض الفحوصات، كان على بهاء ان يبقى بضعة أيام أخرى في دمشق، على امل ان يلتحق بكردستان فيما بعد. لكنه حضر في ذلك الصباح الباكر على موعد الباص الذي سيتحرك بنا الى القامشلي، جاء ليودع رفاقه وأصدقائه المتوجهين للجبل. قلت له قبل ان نصعد انا ورفاق آخرون الحافلة (بهاء هاي نومتك هنا بدمشق) وانا أمزح معه، وتعليقات اخرى على نفس الشاكلة من الرفاق الاخرين في جو من المرح، أجابنا: (ماكو هيچي حچي، هسه توصلون هناك وتشوفوني گدّامكم). كانت هذه آخر جملة قالها. تحركت الحافلة بنا، لوّحنا له بأيدينا، ودعناه بإبتسامات علت وجوهنا و وجهه.
فعلاً، وصلت بشتئاشان بعد مضي ربما شهر، ووجدته امامي، ولكن ليس بشخصه بل بأول خبر سمعته عندما دخلت پشتئاشان في خريف 1982. خبر استشهاد ثلاث رفاق اثناء عبور مفرزتهم الحدود العراقية، وأول ما فكرت به هو: قد يكون الرفيق بهاء احدهم. كان حدسي في مكانه، وليته لم يكن. اول صورة جاءت امامي شيء خاص به، انه يحرك رأسه بإلتفاتات سريعة، تخيلت تلك الالتفاتات وبإيقاع اسرع اثناء الكمين او المعركة التي واجهتهم، أكيد قد أربكته الاطلاقات الاولى، جاءت مفاجئة وسريعة، وهو غير مدرب ولَم يحمل في حياته سلاح ولَم يلحق ان يقوم بالخدمة العسكرية في العراق. ربما لم يسعفه الوقت ليفكر للمرة الاخيرة بحبيبته، لم يمهله ليبعث مع الأثير آخر كلمة حب لها و لبغداد. ربما لم يلحق ان يسحب نفساً على ارض العراق مع اول رصاصة في الهواء، قد تكون هي التي استقرت في جسده. خطفه الموت وهو في عمر لم يتجاوز السادسة والعشرين.
لا اعرف إن كان لك قبر يضم جثمانك ياصديقي بهاء، لكن الذي انا متأكدة منه ان ذكراك تسكن قلوب كل أصدقائك ورفاقك الذين عرفوك عن قرب، وأنها طائر جميل يحلّق فوق بغداد وكل العراق. اما حلمك يا بهاء بعالم افضل فقد سرقه اللصوص وساقته بعيدا رياح الردّة.
سلام لروحك الطيبة الجميلة صديقنا ورفيقنا بهاء.