بعد احداث بشتاشان، والانسحاب الى (سيلوة) الايرانية، عاد الانصار مرة اخرى ليواصلوا قتالهم ضد النظام الدكتاتوري في منطقة (ليلكان). كان ذلك في صيف 1983، اما في الشتاء، فبنوا لهم مقرات في منطقة (لولان)، وشكلوا لهم عدة فصائل توزعت على مواقع: لولان، دراو العليا، دراو السفلى، واخرا للاعلام اطلقنا عليها اسم (ص).
بعد تطورات الحرب بين العراق وايران، ووصول (البازدار) الى الحدود، اضطرت قوات الانصار في عام 1985 الى الانتقال والتحصن في وادي (خواكورك) الذي يتميز بمساحته الواسعة وتضاريسه الوعرة وبعده عن قوات السلطة. توزعنا على عدة مواقع في الوادي، هي: سبيكَا، اسبندارة، ارموش السفلى، ارموش العليا، دجلة، موسلوك، بيربنان، وهناك بعض المواقع الصيفية المؤقتة.
استقر الانصار في هذه المنطقة، وهي كثيرة المياه والاشجار والصخور، ولها منافذ حدودية مع ايران وتركيا، وترتبط مع (ده شت براز كرد) المطل على عدة قرى عراقية يمكننا الوصول إليها، مما سهّل عملية الحصول على التموين والملابس والحاجات الضرورية الاخرى رغم مصاعبها في الجبل.
في هذه المنطقة، وبالتحديد في موقع (لولان)، انعقد اجتماع اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي عام 1984، وفي موقع (ارموش)، انعقد المؤتمر الرابع للحزب عام 1985، سبقه اجتماع اخر للجنة المركزية. وعلى العموم استقر الوضع حتى عام 1988، وخلال هذه السنوات كانت للانصار نشاطاتهم وفعالياتهم المميزة بما فيها التموين الذاتي والطبابة والاعلام واذاعة صوت الشعب العراقي.
قبل شهر تموز من عام 1988، وردت إلينا معلومات اكيدة، بان هناك تقدم سريع للجيش والجحوش (ضمن حملة الانفال سيئة الصيت) نحو مقراتنا. وفي بداية شهر تموز، احتلت مجاميع من القوات المهاجمة المرتفعات المطلة على (خواكورك)، وراحت مدفعيتها تقصف الوادي من دون توقف.
قبل هجوم قوات الجيش والجحوش على مقراتنا، والذي بدأ في 19 / 7 / 1988، انسحبت جميع فصائل الانصار باتجاه المثلث الحدودي (اي الى مقرنا في بيربنان)، ومن هناك الى قمة جبل (آرى)، حيث البقعة الاخيرة المتبقية للانصار والبيشمركة على حدود ايران وتركيا.
لم يبق من الانصار الاّ عدد قليل في مقر (دجلة). هؤلاء الرفاق الباقون، وهم: ابو هادي وفوقي وزمناكو وابو وسام وابو حسين وثامر ورفيق اخر لم اتذكر اسمه، انقطع معهم الاتصال اللاسلكي!، مما اقلق رفاقهم في قيادة الانصار خوفا من ان يقعوا بايدي القوات المهاجمة، فخرجت مفرزة متكونة من ثلاثة رفاق هم منير (ابو قيس فلسفة) وابو حمدان ورفيق اخر للبحث عنهم.
تركت المجموعة المقطوعة مقر (دجلة) وصعدت الى قمة الجبل بالقرب من (كَلي ره ش))، حيث امضت ليلة في العراء هناك. في صباح اليوم التالي، وعندما استطلعوا الوادي، شاهدوا ان الجيش والجحوش احتلوا المقرات ويواصلون حركتهم باتجاه (بيربنان).
تحركت هذه المفرزة باتجاه المكان الذي من المتوقع ان ينسحب إليه الانصار، فصادفوا في طريقهم مجموعة كبيرة من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني متحصنين في مكان صخري واسع. هؤلاء البيشمركة طلبوا من الانصار ان يبقوا معهم لكي يتصدوا للقوات المهاجمة سوية، لكن المفرزة رفضت ذلك، وواصلت طريقها تحت قصف مدفعي شديد جدا. هكذا ولمدة يومين حتى إلتقوا برفاقهم الثلاثة الذين خرجوا للبحث عنهم، ومعهم بعض المعلبات والخبز، فانقذوهم من جوع قاتل.
في منتصف اب 1988 تقريبا، وقبل وصول القوات المهاجمة الى مقرنا في (بيربينان)، استشهد الرفيق الشيوعي الاممي (مام علي)، وهو من جماعة (سازمان) الايرانية، اختار ان يكون مع الانصار حتى النهاية. الرفيق مام علي اصيب بشظية في رأسه نتيجة القصف المدفعي وسلم الروح في الحال. كان من الرفاق الشجعان المخلصين الى مبادئهم وقضيتهم.
تجمع الانصار والبيشمركة فوق قمة جبل (آرى) وجبل (دور برا)، مساحتها كبيرة، تلالها تشتبك مع الحدود الايرانية، ويفصلها عن الحدود التركية نهر صغير (روبار)، وتبعد عن مقرنا في (بيربينان) اكثر من ساعتين.
في هذا المكان خاض الانصار والبيشمركة، اطول معركة واشرسها في تاريخ الحركة الانصارية، حيث استمرت 52 يوما، معركة بين سفح وقمة، جيش عرمرم، مدفعية وكاتيوشا وطائرات الهوكَرهنتر، مناخ عاصف يجتاحه منخفض جوي على مدار الساعة، (قتل الانصار الجوع، واكل رؤوسهم الكَمل). اطلق الانصار عليها اسم معركة قبر (ظاهر) وبالكردية (زاهير)، وهذا القبر لرجل لم تُعرف اسباب دفنه في هذا المكان الذي لايصلح للحياة!.
استطاع الانصار ان يتصدوا للهجوم ويوقفونه، فلم يستطع الجيش ومرتزقته بكل ما يملكه من اسلحة خفيفة وثقيلة، وبكل عدته وعتاده، وجاهزيته التي تفوق جاهزية الانصار بكل شيء، ان يهزم الانصار الابطال، حيث كان يتوقع بانهم سيكونون في هذا المكان فريسة سهلة!، الاّ ان الانصار كانت معنوياتهم لا يمكن وصفها في تلك المعارك، فتحملوا كل شيء من اجل ان لا يصل الجيش الى تلك القمة. هذا بالاضافة الى البيشمركة الذين اشتركوا معنا فيها، وهم: بيشمركة الاحزاب: البارتي الذين كانت مساهمتهم جيدة بتزويد المقاتلين بالمؤن الغذائية، وكذلك جماعة ئالاي شورش، وبيشمركة حزب الشعب الديمقراطي الكردستاني بقيادة سامي عبد الرحمن.
لم تكن الظروف ملائمة للقتال الطويل، فالقوات المهاجمة تمتلك الامكانيات التي تمنحها القدرة على مواصلة هجومها، وتمتلك الاجهزة والمعدات التي تجعلها متفوقة علينا، كما ان الظروف الجوية فوق تلك القمة لم تكن بصالح الانصار، وخطوط انسحابهم معقدة جدا، ولم يحصل هذا الانسحاب خاصة بالنسبة للشيوعيين الاّ بموافقات، هذا بالاضافة الى ان القمة خالية من الصخور والاشجار والمياه، ولا تنبت فيها الاّ الحشائش والاشواك التي تستطيع مقاومة الطقس السيء.
بعد اكثر من خمسين يوم، من القصف المدفعي وقنابل الكاتيوشا وطائرات الهوكر هنتر، بالاضافة الى الجوع والعطش والحرمان من الاستراحة والنوم والاستحمام، وبعد ان انسحب بيشمركة البارتي والاخرين، لم يبق امامنا الاّ الانسحاب من المكان. وهكذا قرر الرفاق الانسحاب الى (دولي كوكا).
كان عدد الرفاق ليس قليلا، واذكر منهم: حميد مجيد موسى (ابو داود)، حسان عاكف (ابو يسار)، منير (ابو قيس فلسفة)، الراحل ملازم قصي، علي مالية، الراحل ابو كوران، ابو حاتم، ساطع، ابو عشتار، ابو نهران، زهير، ابو جوان، ناظم، ثامر، زياد، سعيد عرب، ستار، وعشرات اخرين.