اسرعتُ نحوها، صوتها مألوف لي، ملامحها تغيرت، اصطبغت خدودها باللون الاحمر، وضاعت تلك الابتسامة التي كانت تستقبل بها الانصار كل صباح. ماذا حدث لام نزار (فهيمة شليمون) لتكون منفعلة الى هذا الحد!، قالت بصوت يشبه الأنين "لقد هربنا من بغداد الى دهوك ومن ثم الى (برواري بالا) واليوم الى اين المفر"؟.
في تلك اللحظة بالذات، إخترق صوت الطائرات المقاتلة سماء (كَلي هصبة) مقر الفوج الثالث لأنصار الحزب الشيوعي العراقي في قاطع بهدينان. تفرقنا سريعا، وابتعدنا عن بعضنا، لكن ما ان عاد الهدوء حتى رأيت ام نزار وهي تجلس على احدى الصخور، وقد إلتفّت حولها دجاجاتها التي ترعاهم وترتبط معهم ارتباطا روحيا غريبا جدا!. قفزت واحدة في حضنها، كما لو كانت طفلة تواسي امها حينما تجدها حزينة!. عندما تقدمت نحوها كي اخفف من حزنها، كانت ما تزال تنوح وهي تنظر الى المدى وتقول: "حتى الطيور والعصافير هاجرت، الدجاجات خائفات من القصف فلجأوا لي كي احميهم، ولكن من يحمينا"؟.
جاءنا صوت ابو نزار (*) يهدر: "لقد صبرنا سنوات طويلة، وسنصبر ونكافح من اجل مبادئنا، من اجل طفولة سعيدة ومن اجل الكادحين وجميع الفقراء، ما حيينا". أجابته أم نزار وما انفكّ النواح يشوب صوتها: "نعم صبرنا وصبرنا، ولكن الى اين الان نحن سائرين؟، منذ يوم دخولك السجن ونحن مشردين خائفين، من ارهاب البعث وجلاوزة الأمن والاستخبارات، فالى متى، قل لي"؟...
استغربت مما ذكرته عن السجن، فلم أكن أعلم أبدا بأنه قد دخله يوما، لذلك استفسرت منه: "اي سجن هذا يا (ابو نزار)"؟، اجابني دون اهتمام "لقد سجنت ظلما أيام الجبهة".
ازددتُ تعجبا ودهشة وسألته "عن أي جبهة تتحدث"؟
تطلع إلي بنظرة ثاقبة كعيون النسر الذي يريد ان يصطاد فريسته، ثم قال بغضب "جبهة الكوارث مع حزب البعث وحزبنا في تموز 1973 (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)"!. واصل حديثه بامتعاض: "كنا قد عدنا الى قرانا بعد انهيار الحركة الكردية في عام 1975، وباشرنا العمل في مزارعنا وبناء بيوتنا من اجل الاستقرار وممارسة حياتنا الطبيعية، إلاّ ان جهاز المخابرات والعملاء من ابناء المنطقة، شرعوا بكتابة التقارير ضدنا، خوفاً من توسيع وازدياد القاعدة الحزبية، ففبركوا قضية اغتيال احد ابناء المنطقة وهو اشوري (مختل عقليا)، وعلى اثرها عقدت الجهات الامنية البعثية ندوة في قريتنا (دوري)، متهمين الحزب الشيوعي بقتل ذلك الشخص. لم استطع السكوت يومها، ورديت عليهم بأن الشيوعيين لا يغتالون ابناء منطقتهم وهذا اتهام باطل".
اخذت الاسئلة تتزاحم في رأسي، وبحيرة وغرابة سألته: "لماذا يتم عقد ندوة في قريتكم بالذات"؟..
سحب نفسا عميقا، ومازال الغيظ يغلف كلماته "كانت لديهم معلومات بانني اروّج لأفكار حزبنا الشيوعي، لهذا عقدت تلك الندوة المشؤومة في قريتنا، ثم تم اعتقالي بعد اسبوعين، وبالتحديد في شباط 1976 من قبل جهاز الامن في دهوك، وسفرت الى سجن كركوك، ثم صدر الحكم عليّ بخمسة عشر عاماً من محكمة كركوك قسم الامن الخاص في قضايا الشمال، بعدها نقلت الى سجن ابو غريب في ايار 1976".
سألته وانا مازلت في حالة من الذهول والعجب: "ماذا كانت التهمة الموجهة لك "؟
اجابني بعد ان اخذ نفساً عميقاً يملأه الحزن: "حسب قرار المحكمة، اني مشبع بافكار الحزب الديمقراطي الكردستاني (وكانوا يسمونه: الجيب العميل)!، يومئذ كان السجن يعج بالشيوعيين، ولم يستطع الحزب أن يقوم بأي شيء من اجل اخراجنا منه".
كان لا بد من سؤاله: كيف قضيت تلك السنوات الخمس عشرة في سجن ابو غريب؟
اتسمت نبرات صوته بالأسى والألم وهو يقول "ايام تعيسة، كنا نشعر بغضب وحسرة وكمد، فكيف يكون الحزب مشاركا في الحكم بوزيرين وفي تحالف مع السلطة، وفي نفس الوقت يقبع الشيوعيون في الزنازين!، لكن البرجوازية تبقى عاهرة، فعندما تشعر بخطورة وضعها تدافع عن مصالحها بشتى الطرق، بالترهيب والترغيب وشراء الذمم، الاّ اني لم اتنازل عن مبادئي ابدا". بعد ان صمت لبرهة استدرك قائلا: "نتيجة قرارات الحكومة السنوية بالعفو عن السجناء، مكثت اربع سنوات فقط وتم الافراج عني، فالتحقت مباشرةً بحركة الانصار في ايار 1982.
بصوت يمزقه النواح، أكملت أم نزار سرد مأساتها: "لكن السلطة لم تتوقف قط عن ملاحقتنا في دهوك، مما اضطرنا للهروب، وهذه المرة مع عوائل اخوانك ايضا خوشابا وعمانوئيل وشليمون (سعدو) الذي التحق بصفوف الانصارعام 1984، وها نحن اليوم نهرب مرة اخرى"!. بعد سماعها لقرار ترك مقر الفوج، نظرت بأسى الى دجاجاتها متحدثة إليهم: "أني أعلم انّ نيران القصف سوف تلتهمكم وتمزقكم ارباً، اعذروني لا استطيع حمايتكم، فأنا لا اعرف الى ماذا سيؤول مصيرنا". كانت الدموع تتساقط كحبات المطر على خديها.
يومذاك كانت عملية الانفال قد بدأت في نهاية اب 1988، ومعها بدأت مسيرة الآلآم الى المجهول. طوابير بشرية من النساء والاطفال والشيوخ من سكان القرى، وبيشمركة الاحزاب الحليفة وعوائلهم مع الأنصار الشيوعيين، يجاهدون من اجل عبور الشارع بأتجاه قريتي (هرور وقمرية). استمروا في صعود المرتفعات الجبلية وهبوط الوديان خوفا من القصف العشوائي على منطقة (برواري بالا).
لم يكن امامهما خيارا سوى دخول الاراضي التركية برفقة العوائل الاخرى. بعد ايام حصلا على خيمة في مخيم (ماردين) الذي وصف أبو نزار الايام فيه: "ايام لا تقل تعاسة وسوء عن ايام السجن، البرد القارس في الشتاء، والحر الذي لا يطاق في الصيف، بالاضافة الى انعدام المستلزمات الضرورية كالماء والمرافق الصحية النظيفة التي كانت احدى اسباب انتشار الامراض بين الناس في المخيم".
استطاعا الفرار من المخيم، ووصلا الى سوريا. قال ابو نزار بحزن وألم كبيرين "في ليلة 8 اب 1989 تسللنا ليلاً عبر سياج المخيم الذي تحرسه الكلاب الشرسة والجندرمة، اختفينا تحت الجسر الذي يبعد بحدود 500م عن المخيم حتى انبلج الصباح، وحصلنا على سيارة نقلتنا الى مدينة (ماردين)، ومن هناك استلمنا الدليل لنعبر الى سوريا.
اثناء الظلمة الحالكة عبرنا حواجز الموت، ووقعنا في كمين، فجرح اثنان من رفاقنا، واستشهد نورالدين سيد احمد ئاميدي بعد يومين في احدى مستشفيات القامشلي نتيجة اصابته بجراح، اما الرفيق دلزار فقد اصيب في قدمه وتمت معالجته. كان معنا ايضا الرفيق سلام فواز ومجموعة من ابناء رفاقنا بحدود عشرة اكبرهم عمره لا يتجاوز الـ(14) عاماً، ولاحقاً، ومن الشام لجأنا الى مملكة السويد حيث نعيش فيها الان."
................
(*) ابو نزار (زادوق اثنيل شليمون) مصاب بأزمة الربو وما زال يعاني منها. والده اول شهيد في بهدينان (تشرين الثاني 1961) ضمن بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني. جددنا حوارنا بعد فراق (كلي هصبة) ومخيم ماردين والانفال في 30 نيسان 2017 في الدنمارك.
في الصورة (ابو نزار وزوجته ام نزار) شتاء 1987 (كَلي هصبه)