وصلنا الى مدينة القامشلي السورية في يوم 11 ايلول 1980، وعلينا ان لا نستعجل في الخروج من عربة القطار، لاننا في كل الاحوال سننتظر الشخص الذي من خلال كلمة سر محددة يأخذنا الى مكان السكن.
بعد حوالي عشرة دقائق، اتجه نحوي رجل كهل (ابو وحيد) الطيب الذكر، بعد ان تعرفنا على بعضنا كما هو مقرر، اصطحبنا الى احد البيوت الطينية الذي يقع في اطراف المدينة، ويبدو انه يعود لعائلة فلاحية كردية فقيرة، قدمت لنا وجبة شهية من اللبن والجبن وخبز التنور الذي لم اتذوقه لخمس سنوات خلت، واحتسينا الشاي الذي يقولون عنه انه شايا عراقيا.
هذا البيت الطيني كان بمثابة اقامة جبرية، يتحتم علينا عدم الخروج منه لاسباب امنية وخوفا من الوشاية بنا، لاسيما ونحن نعلم ان لدى النظام العراقي المقبور تعاطفا ملحوظا من سكان هذه المنطقة، ولهذا تكثر عيونه المخابراتية.
لم نكن نعرف من يسكن في هذا البيت، الذي يوفر لنا كل ما نحتاجه عن طريق هذا الرجل الرائع طيب الذكر (ابو وحيد) والذي علمت انه فارق الحياة.
اخبرنا ابو وحيد بفتح الحدود بين سوريا وتركيا، بعد غلقها بسبب الانقلاب العسكري الذي حصل في تركيا في 12 ايلول 1980 بقيادة كنعان افرين، واكد لنا امكانية العبور طالما ان المجموعة لديهم جوازات سفر مقبولة، وعليها تاشيرات القنصلية التركية في سوريا.
استطعنا الوصول الى الجانب التركي من مركز (النصیبین) الذي لا یبعد عن مركز القامشلي السوري كثیرا، وتوجھنا بالسیارة الى فندق (بلفار) حسب الاتفاق المسبق. صورة ھذا المكان لازالت عالقة في ذھني، خاصة وان الفندق یطل على احدى الساحات في المدینة، تتوسطھا دبابة جاثمة فیھا لتحرسھا. كان من المفترض ان یصل الینا احد الادلاء في نفس الیوم او في الیوم التالي مبكرا، لكنه تاخر، فانتاب بعضنا القلق بسبب الوضع العسكري في الشارع، بالاضافة الى صغر مدینة (النصیبین) التي لا يحتمل البقاء فیها، خاصة للسواح مثلنا!. اقترح احد افراد المجموعة ان نسافر الى (دیار بكر)، وھي المدینة الاكبر في المنطقة، لكني ترددت بالموافقة رغم المخاطر المتوقعة، لاني لو قبلت بذلك، فلا یمكنني تأمین الاتصال بالجھة التي توصلنا الى ما نرید، ولھذا كنت ارجح العودة الى سوریا اذا اقتضى الامر اكثر من الذھاب الى (دیاربكر).
في وقت الضحى من اليوم التالي، دق باب غرفتي صبي لا یتجاوز عمره الخمسة عشر عاما. یتكلم العربیة بصعوبة، ولا یعرف الانجلیزیة. فھمت منه هو الدلیل المنتظر .لا اخفي اذا قلت انه امتحان صعب، بسبب صغر سن ھذا (الدلیل)، وكیفیة التعامل معه، وھل نصدقه ام لا، لكن الخیارات قلیلة، والشارع یملؤه العسكر .فكرت ملیا بعدما تركت الصبي واقفا في الممر خارج الغرفة، وتوجھت الى افراد المجموعة لاخبرھم بالامر واهمية اتخاذ قرار سريع، فهدر الوقت ليس في صالحنا.
لاحظت ان بعضا منا مترددا، وهذا امر مشروع، لكني اتخذت القرار بالنزول من الفندق بعد ان طلبنا منه استئجار سیارة بمعرفته. طلبت من المجموعة تخفيف وزن الحقائب الكبيرة، وھذا ما یتذكره جیدا العزیز (ابو مازن) لانه اكثرنا وزنا بالجسم والملابس التي اشتراھا من دمشق.
لا ابالغ اذا قلت ان حاجیاتي كانت الاقل وزنا، لاسباب تتعلق بوضعي المالي، فكانت مشتریاتي من سوق الحمیدیة محدودة، واعتمدت اساسا على المنحة التي قدمت لي من قبل المنظمة في دمشق (الخط العسكري)، ولكني قبلت في وقتھا ھدیة من المجموعة (قمصلة) ملائمة للبرودة والاجواء المثلجة، ولي معھا قصة حدثت لاحقا، أذ طمرتھا قرب أحدى القرى الواقعة على ضفاف نھر الزاب لعدم حاجتي الیھا، بالاضافة الى حرارة الطقس واعاقتھا لحركتي، وحددت مكانھا بعلامة، لكني حینما عدت للقریة فیما بعد، لم اجدها.
نزلنا من الطابق الثاني الى باب الفندق بعد ان دفعنا الحساب، وتحت انظار العسكر المتواجد في الساحة، والدبابة الجاثمة بمواجھة الفندق، وضعنا حقائبنا (السیاحیة) في سیارة بیك آب ذات القمرتین، وركبنا نحن الخمسة في داخلھا، وتوجھنا نحو مكان نجھله الاّ هذا الصبي الصغیر (الدليل). كان ذلك في 15 / ايلول / 1980، حين انطلقت بنا السيارة باتجاه المثلث العراقي السوري التركي، ولم تكن المسافة التي قطعناھا طویلة، لكننا اصبحنا بعیدین الى حد ما عن مدینة النصیبین.
خرجت السیارة عن الشارع الرئیسي، وسلكت الطریق الترابیة باتجاه سفح جبل قریب في منطقة معزولة نوعا ما. في تلك الاثناء، راودتنا جمیعا الفكرة التي لا مناص منھا، وھي البدء بالسیر على الاقدام. وبالفعل، حینما وصلنا الى أسفل ھذا الجبل، توقفت السیارة، وترجل السائق، واوعز لنا بالنزول وأخذ الحقائب. برھة اخذنا ننظر الى بعضنا بعض لنفكر بما ھو آت، ولكننا لم نترك لانفسنا التامل، وكل منا تناول حقیبته .توجه الدلیل نحونا وقال بلغة عربیة كردیة تثیر الانتباه: احملوا حاجیاتكم وتسلقوا الى قمة ھذا الجبل، ولكن باقصى سرعة حتى لا تنكشفوا للجھات الامنیة او العسكر، وسیكون بانتظاركم رجل آخرھناك یتولى الامر بعدي، وبسرعة ادار السائق المحرك، وعلمنا فیما بعد انه من ناشطي حزب العمال الكردستاني.
بدأنا بالصعود رویدا، وبعد ما یقرب من عشرین دقیقة، ونحن لم نتجاوز ربع المسافة المطلوبة، ظهر علينا الارهاق، والسبب في ذلك یعود لامرین اساسین: الاول ھو اننا لم نعتاد صعود الجبال، والثاني هو ثقل حملنا والاحذیة التي نرتدیھا، فھي غیر ملائمة لھذا المشي. وقد بدا (ابو مازن) محمرا ومتعرقا، اما العزیز(ابو طالب)، الشاب البصري الاسمر النحیف والمرح جدا، فهو الوحيد الذي لم تظهر عليه علامات التعب.
بعد ما یقرب من نصف ساعة اخرى، وفي زاویة غیر مكشوفة للشارع، استرحنا قلیلا، وبدانا نفتش الحقائب من جدید عن ما نستطیع التخلي عنه. وكالمعتاد (ابو مازن) ھو الاوفر منا، ولكن حینما یرمي بعضا من ملابسة الجدیدة، نتلقفھا، لا سیما الخفیفة التي لازالت في اكیاسھا، لكنه استطاع استرجاع القسم الاكبر منها بعد وصولنا الى القاعدة الانصارية.
عاودنا المسیر نحو القمة، والذي استغرق من الوقت ما یقارب الساعة، وحینما وصلنا القمة شعرنا بالزھو والانتصار رغم ان التعب والارھاق اخذ منا مأخذه . بعد عشرة دقائق او ما یزید قلیلا من الاستراحة وشرب الماء، توجه نحونا رجل یشبه في ملامحه الممثل (انتوني كوین)، وھذا ما كنت اراه في ھیئته وحركاته، وخاصة في دوره في فیلم (الممر) الرائع، انه الدلیل الجدید .
تحركنا عصرا الى قریة اخرى، وبدا التعب یزداد بسبب السیر لمسافات طویلة، بما في ذلك اثناء الليل على ضوء القمر الذي نشعر بانه قريب منا، لاننا في اعالي الجبال. طلبت من الدلیل عن طریق الاشارات ان نستريح قلیلا، فلبى طلبي. بعد فترة لیست طویلة من المسير، سمعنا نباح كلاب، ففرحنا واستبشرنا بالوصول الى النقطة الاولى، وحین بلغنا القریة الموحشة التي لا یتجاوز سكانھا ثلاثة عوائل كما یظھر من عدد بیوتھا، خرج جمیع السكان یرحبون بنا بلغتھم التي لا نفھمھا، حتى الرفيق (ابو مازن) الذي اعتمدنا عليه في الترجمة، كان مثلنا ايضا، نوزع الابتسامات على الحاضرين بسبب او بدونه.
اكلنا الخبز المغطس باللين الطيب، ثم شربنا الشاي، وبعدها امرنا الدليل بالنهوض ومواصلة المسير. احسسنا وقتها بشعور غريب، وكل منا ينظر الى صاحبه كالاطفال التي لا تجيد الكلام، وتكتفي بابتسامة او حسرة، لاننا كنا نتوقع ان نبقى في القرية حتى الصباح. استمر وضعنا على هذا المنوال بين الهمة والتعب حتى الساعة الثالثة فجرا. بدأ القمر يهم بوداعنا برهبة وحزن، ويكاد ان يهبط بين قمتين متلاصقتين، فتذكرت مدينتي الحبيبة (البصرة) عبر ابيات شعرية لبدر شاكر السياب، وخاصة انها تصف الحالة التي نحن فيها:
أكاد أسمع العراق يذْخُر الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ،
حتى إذا ما فضَّ عنها ختمها لرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ
واثناء تذكر هذه الابيات، سمعت نباح كلب من بعيد، وفي هذه الحالة يكون المرء غاية في السعادة حينما يبشرنا الدليل بايمائة منه، باننا وصلنا الى النقطة المقررة لاستراحتنا.