رنت خطوط الهواتف بلا انقطاع صيف 1985 بين فرقة حزب البعث في بعشيقة واجهزة امنها في بغداد والموصل، ليخبروا اسيادهم بوجود عوائل البيشمركة باعداد كبيرة فيها، ينبغي طردهم! من المنطقة، فعوائلهم متعاونة معهم وتنقل لهم الاخبار والمعلومات، وفي ذلك خطر على الحزب والقائد والثورة!. بتلك السفالة التي لا يضاهيها سفالة اقدم بعثيو بعشيقة وبحزاني بكتابة تقاريرهم اليومية من اجل طرد تلك العوائل، ويأتي الجواب على عجلة "نعم بارك الله فيكم، اطردوهم وإنفوهم الى حيث تواجد ابنائهم عملاء العدو الصهيوني والايراني"!.

حشروا عشرات الاطفال والنساء في سيارات الامن، وبحراسة مشددة قادوهم الى (اتروش)، ثم تركوهم على الطريق المُوصِلة لمصيف (بلكيف)، الذي تحرسه احدى الربايا التي قامت باطلاق النار عليهم، كما لو انهم احفاد الصهاينة والخميني. إلتحقت الفرق البعثية القريبة من بعشيقة وحواليها كالشيخان والقوش وباعذرة بمثيلتها البعشيقية وأخرَجوا نساء وأطفال البيشمركة"العملاء" بملابسهم التي يرتدونها فقط، بعد ان سحبوا وثائقهم، ومنعوهم من حمل اشيائهم الشخصية بما فيها الادوية، ومن ضمن المجموعة الاخيرة التي ابعدت عن بلدتها اُم الملازم سلام (حميد دخيل)، وقد جاوزت عقدها السادس من العمر، ومعها ابنتها رزينة.. كان قد مضى حوالي 7 سنوات على فراقها لولدها حميد. فرحة اللقاء بابنها في اليومين الاولين، انستها امراضها، لكنها في اليوم الثالث بدأت تعاني من جديد، خاصة ارتفاع ضغط الدم.

دفء الخريف تلاشى، وحلت نسمات باردة. جمعتنا قرية (ميزي) ليلة 29- 30- تشرين الاول من العام 1985، مُلتفين حول النصير الجريح (كروان- بير خديدا من سرية الشهيد امين / الفوج الاول). لم تفلح مساعي الدكتور (جهاد ـ عزيز الشيباني) التي استمرت 8 ساعات. مازلت اتذكر كيف اطبق الدكتور جهاد فجر يوم 30 تشرين الاول 1985 جِفني الشهيد كروان وتَراجعَ لزاوية الغرفة مُنكفئاً على نفسه، دافناً رأسه بين ذراعيه وركبتيه جاهشا بالبكاء. ادركنا أنّ كروان قد ودّع الحياة بعد اصابته باطلاقة كلاشنيكوف تفجرت في ساعده الايسر وهشمت عظامه في ذلك المساء وهو يهم باحضار خثرة اللبن لِامه من جيرانهم، وقد فارق الحياة في السادسة صباحاً برغم مساعي الدكتور جهاد الحثيثة لانقاذه. ونحن نواري الشهيد كروان الثرى بجوار قبر الشهيد الخالد محمود ايزيدي في كاني مازي، صُعقنا بِخبر استشهاد (ملازم سلام) في كمين قرب (بيبان). استشهد سلام ، ولم يودع امه وشقيقته. لم تكن مهمته عسكرية كما اعتاد في كل مرة، بل ذهب ليؤمن دواء ارتفاع ضغط الدم لامه، اِلا ان كمين الاستخبارات حال دون عودته لها الى الابد.

من يخبر ام حميد التي مازال نظرها لم يرتو من ابنها بالفاجعة!؟. لقد فارقته منذ سنوات عديدة، ولم يمضِ على لقائهما سوى اقل من اسبوع. لا اعرف كيف ومن اخبرها، الا اني اتذكر انتقالنا بصحبة الدكتور جهاد الى قرية (كهرفا) لعلاج ام حميد التي اغمي عليها حال سماعها النبأ. كان ضغط دمها مرتفعاً جداً لهول الخبر.. نامت لساعات بفعل الدواء، لكنها في اليوم الثالث قررتْ العودة بصحبة ابنتها من حيث أُخرجت عنوة، فقد زالت اسباب ابعادها. اختارني اصدقائي الانصار ان ارافقها الى الدشت - سهل الموصل، بعد ان وفرنا لها حيوانا يحملها المسافات الطويلة والطرق الوعرة. بين الجبل ودشت ـ سهل الموصل، كانت قليلة الكلام، وحرصتُ ان اكون بقربها لاسندها، خاصة اثناء تسلق الحيوان المرتفعات الحادة.

بعد اكثر من عشر ساعات مشياً، وصلنا الى قرية (كرسافة وخورزان)، نزلنا في منزل رفيقنا (حسين سيسو) الذي بدوره اتصل باحد سكانها ليوصلها بسيارته الى بعشيقة. استقلت ام الشهيد ملازم سلام السيارة بصحبة ابنتها رزينة عائدتان الى بلدتهما. ظلت عيناي عالقة على السيارة في المسافة الممتدة بين خورزان وكرسافة من جهة الجبل وبين قرية بيبان من جهة السهل .. هو ذات الطريق الذي سار عليه ملازم سلام في الساعة الاخيرة قبل ان يودع الحياة .. آه ياخالتي ام حميد لو تعلمين انك تسيرين على ذات الطريق الذي سلكه ابنك من اجل ان يعود لك بالدواء .. تخطت السيارة تلك الارض التي تشربت بدماء حميد لتصل بعدها الى الطريق المعبدة وتتسارع حركتها وتأخذ معها ام الشهيد. كانت تلك آخر مرة ارى فيها تلك الام الطيبة التي فجعت بابنها لتنسج حكاية خالدة لا يستطيع احد نسجِها حتى في الخيال.

النصير الشيوعي العدد 40 السنة الرابعة تشرين الثاني 2025