من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 12 / فائز الحيدر 

اللجوء الى ايران


طلب منا مرافقنا مرافقته الى نقطة الحدود ثم تحدث باللغة الفارسية مع الجندي الأيراني ذو الملابس الرثة والموجود في الغرفة الطينية المجاورة لسفح الجبل بضع دقائق ولم نستطع أن نفهم شـيئا" وما دار من حديث بينـهم ثم غـادرنا مودعـا" مع إبتسامة خفيفة على شفتيه ....عندئـذ أخذنا ننظر الى الخلف وعن بعد لنرى جبال وأشجار وطننـا الحبيب قبل ان نغادره ولا ندري هل سنراه مرة أخرى أم لا ؟

في يوم الوداع ( 1 )  

ركبنا سفينة الرحيل
من فوق الرمال
على شاطيء النهر
نرفع ايدينا بالوداع
والدموع تجرح خدينا
نجففها بمنديل الانتظار

بعد دقائق توجه الجندي الأيراني نحونا طالبا" منا الجلوس على الأرض لعدم توفر الكراسي موجها" لنا بعض الأسئلة باللغة الفارسية ثم أدرك بعد لحظات إننا لا نجيد اللغة الفارسية فأخذ يتحدث مع نفسه بكلمات لا نفهمها، دقائق حرجة مرت ببطئ حتى دخل الغرفة أثنان من الشباب يتحدثون فيما بينهم بالعربية والكردية وتبين لنا بعد دقائق إنهم من طالبي اللجوء أيضا" مما جعلنا نطمئن بعض الشئ وخاصة في مسألة التفاهم وتذليل مشكلة اللغة، ثم علمنا أنهم عراقيان فالأخ (شيرزاد) شاب كردي يعمل موظف في بنك الرافدين في مدينة اربيل ويجيد الكردية والعربية والفارسية والأخ (صفوت) من الأخوة التركمان ويعمل مدرس في كركوك ويجيد العربية والتركية .

ربطتنا بالأخوة شيرزاد وصفوت علاقة تعاون وإحترام متبادل وكان لهما الفضل في تذليل الكثير من العقبات التي واجهتنا في مجال اللغة الفارسية وإشكالاتها في الأيام اللاحقة، وبعد دقائق أتصل الجندي بجهاز اللاسلكي وخرج من الغرفة وعاد ثانية ومعه صينية من الألمنيوم تحتوي عدة أرغفة من الخبز و قطع صغيرة من الرقي الأحمر وترمس ملئ بالشاي وقال ضاحكا" هذا فطوركم لهذا اليوم كلاجئين في الجمهورية الأيرانية الأسلامية.

تناولنا الفطور على عجل ثم توجه ألينا ثانية بالسؤال طالبا" ان نذكر له أسمائنا وحسب الوثائق التي نحملها إن وجدت والغرض من دخول أراضي الجمهورية الأيرانية الأسلامية ومهنة كل واحد منا وسجل بصعوبة وببطئ ما أمليناه عليه في الدفتر الكبير الموجود امامه والذي يذكرني بدفاتر دوائر الأحوال المدنية ودفاتر الخدمة العسكرية في دوائر التجنيد في العراق، وبعد دقائق عاود الأتصال ثانية وطلب منا الأنتظار.

كانت قذائف المدفعية التي تصم الآذان تسقط بين الحين والأخر على محيط موقع (خريتة)، رشاشات الدوشكا الموزعة على الجبال المحيطة بالموقع تطلق رشقات نيرانها بأتجاهات مختلفة تجعلنا في حالة من القلق وكأننا في ساحة المعركة وعلى خط الجبهة.

دام إنتظارنا أكثـر من ساعتين بعدهـا تقدم ألينا شـاب في الثلاثين من عمره يرتدي الملابس العسكريـة وبدون أية رتبة عسكرية وطلب منا نحن الأربعة مرافقته والركوب في السـيارة المعدة لنا من نوع (تيوتا ستيشن) والتي تنتظرنا على بعد أمتار قليلة دون ان نعرف وجهتنـا والى أين نحن ذاهبين؟ إنهـا المرة الأولى التي نركب فيها السيارة بعـد دخولنـا كردستان، سارت السيارة في طرق جبليـة وعرة تاركـة ورائها سحب من التراب المتطاير وكأنهـا عاصفة ترابية وسـط قصف مدفعي متواصل، القذائف تتساقط من حولنا، السائق يقود السيارة برعـونة ويرفض التوقف تجنبـا" لأصابتنا معرضـا" بذلك أرواحنا لخطر حقيقي، وبعـد نصف ساعة من السياقة الجنونيـة وقف بجانب أحـدى البنايات يرفرف فوقهـا العلم الأيراني ويبدوا لي أنها مدرسة أبتدائية حولت بسبب الحرب الى دائرة عسكرية يحيط بها بيوت بسيطة متناثرة أصيبت بعض منها وتهدمت جدرانها، دخلنا أحدى غرف البناية وتقدم منا أحد الموجودين فيها وهـو يتكلم اللغـة العربية بطلاقـة مرحبـا" وطلب منا الجلوس وقدم لنـا اقداح من الشاي وأخرج من تحت المنضـدة التي جلس خلفها صحن كبير مملوء( بالكليجة ) وباركنا بالعيد الذي سوف يصادف يـوم غـد، تم طرح بعض الأسئلة علينا وعرف هويتنا وعلمنا فيما بعد انه كادر متقدم في الحزب الديمقراطي الكردستاني( حدك ) وهذا الموقع هو لأحد مكاتبهم على الحدود، انه احدى مواقع خط الجبهة مع العراق، أصوات المدفعية المتبادلة مستمر، رشاشات الدوشكا المضادة للجو والموزعة فوق الجبال المحيطة بالمقر تطلق رشقات من الطلقات على الطائرات العراقية المغيرة وأحيانـا" بدون سبب حتى يبقى الجنود على انتباه ويقضة بشكل دائم، رشقات من بنادق الكلاشنكوف التي يحملها الجنود على أكتافهم تسمع داخل المكان أحيانا" وبدون سبب وقد تكون لرفع المعنويات ولجعل الجميع يشعر بحالة حرب مستمرة.

دقائق مرت قبل ان يتم إخبارنا إننا سنتوجه الى ناحية (أشنوية) الأيرانية الواقعة ضمن اقليم أذربيجان في الشمال الغربي لأيران وتقع جنوب بحيرة أرومية القريبة من الحدود العراقية، ولم نوجه بالطبع أي سؤال ولكن القلق يسري في داخلنا لأننا ذاهبون الى المجهول .

جلسنا نحن الأربعة في الحوض الخلفي لسيارة الجيب العسكرية المستهلكة وهي من نوع (جيب تيوتا) وأنطلقت بنا في طريق ترابي وعر وسط الجبال والوديان وأصبحنا شبه أشباح بسبب كثرة التراب الذي دخل السيارة، على جانبي الطريق معسكرات مختلفة وخيم عسكرية موزعة بشكل غير منتظم، سيارات عسكرية ودبابات تتحرك بأتجاهات عديدة مختلفة، خزانات النفط ومحطات البترول على جانبي الطريق مدمرة نتيجة قصف الطائرات العراقية، الأسلحة المضادة للطائرات موزعة على سفوح و قمم الجبال والتلال القريبة يمكن مشاهدتها وهي تطلق النيران على الطائـرات العراقية المحلقة في سماء المنطقة وكأنهـا نجوم في السماء ولا يمكن رؤيتـها بسهولة وحتى من خــلال النواظيـر العسكريـة، سـيارات الأسعاف العسكرية تنقل القتلى والجرحى، بيوت مهدمة والشوارع أصابتها الطائرات بشكل مباشر وشلت حركة العجلات فيهـا، المنطقة كلهـا عبارة عن سـاحة حرب مصغرة محزنة، الدمار في كل مكان تراه العين، هـذا ما جنـاه الشعبين العراقي والأيـراني من الحرب لأشـباع نزوات الحكـام الدكتاتوريين، أحـاديث متواصلة مع الأخـوة شيرزاد وصفـوت لكي نشغل أنفسنا عن مشاهدة نتائج هذه الحرب المأساوية القذرة التي تحيط بنا، تقطع أحاديثنـا بين الحين والأخر سقوط قذيفة مدفعية بالقرب منا مما يجبرالسائق على التوقف لبضع دقائق يواصل بعدها مواصلة السير.



وصلنا ناحية (أشنوية) بعد أكثر من ساعتين ونصف، أنها ناحية صحراوية بكل معنى الكلمة، بيوت طينية متفرقة قديمة مخربة، الشوارع ترابية، نادرنا" ما تشاهد بيوت حديثة مبنية من الطابوق، شجيرات صحراوية يغطيها التراب وأصبحت جزء من الطبيعة نفسها، رياح موسمية صحراوية حارة تهب على الناحية تغطيها بالتراب، أسئلة عديدة تشغل البال!!! أين عائدات النفط ومن المسؤول عنها ؟ ولماذا لا تصرف أموال الحرب هذه لبناء المدن وتطويرالأنسان وحياته وسعادته بدلا" من الحروب والقتل والتدمير.

 توقفت سيارتنا أمام بناء قديم تم طلائه من الخارج بطلاء أخضرغامق يذكركنا بأفلام الرعب التي كنا نشاهدها بالأفلام السينمائية، أسفل البناء عدة محلات مغلقة، في هذه اللحظات تصارعت الأفكار وتوقعنا الأسوء في هذا البيت ؟ هل هو بيت سري للمخابرات الأيرانية ؟ هل هو دائرة للأمن ؟ الباب مغلق من الخارج بقفل كبير، نزل السائق وطلب منا الأنتظار وغادرنا لعدة دقائق ثم عاد يحمل معه المفتاح وطلب منا النزول وهو يقول هذا هو الفندق الذي ستقضون ليلتكم فيه، إستغربنا من كلمة الفندق، هل صحيح ما يقول أم انه نوع من الهزل أو إن هناك كمين قد نصب لنا دون علمنا، وماذا كنا نفعل لو علمنا هناك فعـلا" كمين نصب لنا!!! درجات عديدة للسلم شبه العمودي تقلنا نحو الداخل، نظرة سريعة للشقة، كراسي قديمة مرتبة الى جانب بعضها، اربع غرف تحوي كل منها على سريرين، الطلاء المستعمل في الداخل غامق ويدل على عدم الذوق في اختيار الألوان المستعملة، بادرنا بفتح النوافذ لتغير الهواء ويبدوا ان البناء قد ترك منذ فترة طويلة فالأتربة تغطي كل شئ.

هذا هو مكان إستراحتكم لهذه الليلة، هذا الفندق كله لكم أنتم الأربعة فقط وهو يبتسم، هل تحتاجون الى شئ ؟ هذا ما قاله مرافقنا بالفارسية، تفقدنا الفندق وحددنا أحتياجاتنا من الصابون وتجهيز الحمام بالماء الساخن لغرض الأستحمام ولغسل ملابسنا من التراب الذي غطى كل شئ فينا وإستعمال المراوح وتوفير وجبة الغداء خاصة ونحن الأن في الساعة الثالثة بعد الظهر وأخذنا نحس بالجوع.

من جانبه أكد وهو يحاول مغادرة الفندق نرجوا عدم مغادرة الشقة وإعطاء أي معلومات لأي جهة مهما كانت وخاصة الصحافة وعليكم الألتزام بذلك ثم غادرنا، تم اختيار الغرف المناسبة من قبلنا وقمنا بترتيب كل منها وتنظيفها من الأتربة وتهيئتها للنوم، وأخذ كل منا حمام ساخن وتمددنا على أسرتنا لبضع الوقت حتى جاء من يعكر راحتنا، انهم رجال الصحافة الباحثين عن الأخبار، وجهوا لنا بعض الأسئلة رفضنا الأجابة عليها تقيدا" بالتعليمات وتجنبا" لأي إشكالات مع السلطات الأيرانية، مما أثار غضبهم وأتصلوا تلفونيا" بجهات نجهلها ثم غادروا الفندق، بعد ما يقارب نصف الساعة تبعهم دخول ثلاثة رجال بالباس المدني لا نعرف هوياتهم وطلبوا معلومات مشابهة أيضا" ألا انني أخبرتهم بالتوجيهات التي بلغنا بها ولا يمكننا تجاوزها خاصة ونحن ضيوف في الجمهورية الأسلامية ولا نريد الدخول في مشاكل مع السلطات وطلبت منهم الأنتظار حتى مجئ الشخص المسؤول عنا ويمكنهم أخذ الموافقة منه وما تحتاجون من معلومات اذا وافق على ذلك، تبين لنا لاحقا" ان الضيوف الثلاثة هم من رجال الأمن أما مرافقنا فهو من رجال المخابرات الأيرانية ( السافاك ) ومكلف بمرفقتنا ويبدوا لنا عدم وجود تنسيق بين الدائرتين حول واجبات وحدود ومسؤولية كل طرف منهم خاصة في موضوع اللاجئين.

في هذا الوقت وصل مرافقنا وهو يحمل معه وجبة الغداء وجرى بين الطرفين نقاش حاد كاد يصل الى أستعمال الأيدي بين الطرفين حتى مغادرتهم المكان، كانت وجبة الغداء مكونة من الكباب الأيراني اللذيذ مع الرز وهو مايسمى ( بالجلو كباب ) تبعه تناول عدة اقداح من الشاي، في الوقت ذاته كنا نستمع الى راديو الجمهورية الأيرانية باللغة العربية وهو يذيع النشرة الأخبارية وبعض البيانات العسكرية، قطع المذيع النشرة الأخبارية ليقول وصلنا للتو هذا الخبر ...( لجأ الى جمهورية أيران ألأسلامية هربا" من النظام الصدامي والمشاركة بالحرب أربعة من العراقيين وطلبوا اللجوء في ايران وهم الأن ضيوف على الجمهورية الأيرانية الأسلامية ) وذكر الخبر بعض التفاصيل عنا دون ذكر أسمائنا وحث البيان كافة العراقيين على طلب اللجوء في أيران ، لم نعلق على ماسمعناه وكأتفينا بمواصلة تناول الغداء.

قبل الغروب طلب منا مرافقنا مرافقته الى السوق لشراء حجاب للرأس وجبة ( مانتو ) لأم سوزان لأنه من غيـر المسموح لها التجول بالشروال الكردي وبدون حجـاب وفق النظـام الأسلامي في أيران وهـذا ما تم في جوله سريعة في سوق المدينة المكون من عدة دكاكين بسيطة وكأنها تعود الى العصر الحجري.

بعد قضاء ليلتنا الأولى في الفندق جاء مرافقنا صباح اليوم التالي مع الفطور وليبلغنا بالسفر الى محافظة (أرومية) وعلينا نكون جاهزين خلال ساعة واحدة عندها تحركت بنا السيارة في الساعة الثالثة والنصف ظهرا" متوجهين الى محافظة أرومية، التي كانت تعرف سابقا" بـ (الرضائية)، وهي تقع في شمال غرب أيران، وهي تعتبر عاصمة محافظة غرب آذربيجان، تقع بالقرب من بحيرة أرومية وعلى مقربة من الحدود التركية، يتجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة، ويعتقد أن الأسم ( أرومية ) مقتبس من اللغة السريانية، والتي كانت لغة مؤسسي المدينة الأشوريين، فتعني ( ارومية ) بلغتهم ( مهد المياه ) وذلك لأن المدينة محاطة ببحيرة وببعض الأنهار وفي عهد الرومان كانت تسمى ب ( رومية).

الطريق وعر وغير مزفلت ولأكثر من نصف المسافة بين المدينتين، الحرارة لا تطاق، لم تخلف الحرب ورائها غير الخراب والدمار، بيوت مدمرة على جانبي الطريق، آثار القصف العراقي في كل مكان، خزانات الوقود دمرت بالكامل وتحولت الى أنقاض، الأسلحة المضادة للجو فوق التلال والبنايات العالية ، علامات البؤس تشاهدها في عيون الناس البسطاء في كل مكان.

 
بعد ساعتين من السياقة دخلنا المدينة وتوقفت سيارتنا امام بناية كتب على واجهتها ( محافظة أرومية) وترجلنا منها الى الداخل لنرى المفاجئة أمام أعيننا. !!!

 

يتبع

 

11- http://www.yanabe3aliraq.com/index.php/2017-01-23-16-10-51/2017-01-23-16-11-57/13890-2019-03-29-23-22-23

10- http://www.yanabe3aliraq.com/index.php/2017-01-23-16-10-51/2017-01-23-16-12-30/13539-10-1

9- http://yanabe3aliraq.com/index.php/author-names/201-2018-10-01-14-54-55/12973-2019-03-03-21-33-37

8- http://yanabe3aliraq.com/index.php/author-names/201-2018-10-01-14-54-55/12576-8

7-  http://yanabe3aliraq.com/index.php/author-names/201-2018-10-01-14-54-55/12118-2019-02-07-18-45-15